الفخامة كما تصوغها الأيدي... صاغة مجوهرات سعوديون ينسجون بالفكر واليد ملامح فخامة جديدة
بعيدا عن صخب الإنتاج وسرعة الكمال المصنّع، يبرز جيل جديد من الصاغة السعوديين يشكلون للمجوهرات نبضها الأول؛ المعدن لديهم مساحة للتأمل، والحرفة امتداد للذات، والقطعة النهائية مرآة لمسار طويل من التجربة والإصرار. هؤلاء الحرفيون لا يسعون إلى الكمال المصقول، بل يحتفون بما تتركه اليد من أثر حيّ يمنح القطعة صدقها وفرادتها. في كل عمل ينسجونه، تنشأ علاقة خفية بين الإنسان والمادة، بين الحلم واليد التي تجسّده. ومن خلال هذا التلاقي، تستعيد الفخامة معناها الحقيقي، إحساس صادق يتجلى في ما صُنع بإخلاص، وفي الروح التي تسكن كل تفصيل منه.
من ريفان عبدالصبور التي وجدت في المعدن مرآة لشغفها الأول بالفنون، وآيات ضاحي التي جعلت من ورشتها فضاء لإحياء الحرفة وصونها، ومعاذ اللحيدان الذي يزاوج بين الإبداع والتقنية في صياغة تعيد تعريف الفخامة المعاصرة تتلاقى التجارب في قناعة واحدة: البدايات هي الجذر الذي تنمو منه الحكاية.
ريفان عبد الصبور.. اليد التي تبحث عن المعنى
بدأت ريفان عبدالصبور رحلتها من عالم المختبرات قبل أن تكتشف أن شغفها الحقيقي في المعدن لا في المعادلات. هذا التحول فتح أمامها بابا لعالم الحِرفة، حيث وجدت في الصياغة اليدوية مساحة للتعبير والبحث. ابتُعثت إلى بريطانيا لتتعمق في تقنيات صياغة المعادن التقليدية والحديثة، لتصبح اليوم صائغة معادن ومجوهرات متخصصة في الفضة ومدربة تنقل خبرتها للجيل الجديد.
تُعرف ريفان بإتقانها للنقش على المعادن وطلاء المينا، وبقدرتها على تحويل الزخارف الإسلامية إلى لغة تصميم معاصرة تجمع بين الصرامة والدقة. حصدت عدة جوائز محلية ودولية، من بينها المركز الأول في مسابقة "جوهرة"، وجائزة Jacob Jewellers Emerging Designer، والمركز الثالث في "هاكثون الصناعة".

ومع تراكم التجربة، تحوّل العمل الحِرفي لديها من ممارسة فنية إلى فعل وعي وبحث داخلي، إذ تقول: "كل قطعة تُصاغ مرتين مرة بالمعدن، ومرة بالتجربة. العمل اليدوي بالنسبة إلي رحلة وعي، فيها أتعلم من الخطأ أكثر مما أتعلم من الصواب، حين أصمم قطعة جديدة، أفكر دائما في الشعور الذي ستنقله، وفي كيف يمكن للتقنية أن تخدم الإحساس لا أن تطغى عليه".
ومن هذا الوعي الفردي بالحرفة، تمتد رؤيتها نحو المشهد السعودي الأوسع : "بعد مشاركتي في معارض وجوائز محلية ودولية، أصبحت أرى أن ما يميز الحِرفي السعودي هو عمقه الثقافي، قدرته على تحويل الموروث إلى تجربة فنية معاصرة دون أن يفقد هُويته. هذا بالنسبة إلي هو المعنى الحقيقي للفخامة الواعية التي تقوم على التفرد لا الكثرة، لأن الجمال الحقيقي يصاغ من إنسان إلى آخر".
معاذ اللحيدان.. الفكر الذي يصوغ الحرفة
منذ بداياته، اختار معاذ اللحيدان أن يجعل من المجوهرات لغة للفكر بقدر ما هي حرفة للجمال. صائغ معادن ثمينة وفنان تصميم، جمع بين الحس الحِرفي والدقة الأكاديمية، حاصل على دبلوم من دار "عزة فهمي" المرموقة، ويشغل اليوم منصب المؤسس والمدير التنفيذي لدار "يَسفُر" للمجوهرات الفاخرة، إلى جانب عمله مستشارا فنيا لمؤسسات ثقافية سعودية ودولية. بدأ مسيرته عام 2015 بتأسيس مشروع "سنعة" للحرفيين، ومن خلاله أدرك أن الحرفة ليست مهنة فحسب، بل منظومة فكرية قادرة على التعبير عن هُوية كاملة.
يرى اللحيدان أن الفخامة لا تُقاس بالبريق، بل تُبنى طبقة بعد أخرى على أسس من الفكرة والهُوية. يقول: "رحلتي من (سنعة) إلى (يسفر) لم تكن تحوّلا مفاجئا، بل تطورا مقصودا نما عبر رؤية طويلة الأمد. بدأنا من الحرفة الأصيلة، وبنينا عليها طبقة فوق أخرى حتى اكتملت فلسفة الدار".
هذا الوعي المتدرّج قاده إلى تطوير فلسفة خاصة يرى فيها أن الجمال الحقيقي لا يكتمل إلا حين يكون مسؤولا، وأن الاستدامة في عالم الفخامة ليست خيارا تجميليا بل موقفا فكريا. يوضح ذلك بقوله: "الاستدامة في عالمنا ليست مجرد تقليل للمواد، بل هي منهجية متكاملة تبدأ من التصميم الواعي الذي يضع الهيكلة والقصة في مركزه. نعمل من خلال البحث المستمر وتنويع التقنيات على بناء قطع تحمل قيمة جمالية وروحية، مع احترام المواد والحد من الهدر. كل قطعة تحكي قصة، وتُصمم لتكون خالدة، وهو ما يجعل الفخامة مسؤولية أخلاقية وجمالية في آن واحد".
ومن هذا الوعي الممتد من الورشة إلى السوق، ينظر معاذ إلى مستقبل الحرفة السعودية برؤية تتجاوز الصناعة إلى الثقافة، يقول: "نمتلك كافة المقومات للازدهار، لكن لكي تصبح السعودية مركزا عالميا في صناعة المجوهرات، نحتاج إلى منظومة تجمع بين الإبداع والتقنية والتطوير المستمر، لتتحول الحِرفة من ممارسة فردية إلى صناعة ثقافية تنافس عالميا".
آيات ضاحي.. اليد التي تحاور المادة
تجمع آيات ضاحي بين الفن والعلم، وبين الصبر والدقّة، لتجعل من المعدن مساحة للتعبير والبحث الجمالي. فنانة وصائغة ومصممة مجوهرات، تحمل البكالوريوس في الفنون الإسلامية، ومن خلالها تعرفت إلى جوهر التكوين البصري ومعاني الرموز والزخارف، قبل أن تكمل دراستها العليا في الولايات المتحدة، حيث حصلت على ماجستير في تصميم وصياغة المجوهرات من جامعة سافانا للفنون والتصميم، في عام 2020 عادت إلى السعودية لتؤسس "ورشة آيات" مساحة فنية مخصصة لصياغة المعادن والمجوهرات، حيث تعمل اليوم مدرّبة ومتخصصة في تقنيات دقيقة.

ترى آيات أن العمل مع المعدن تجربة تأملية قبل أن تكون تقنية، وتصفها بقولها: "أكثر ما جذبني إلى عالم المعادن هو المفارقة بين الصلابة والليونة، بين المادة الصامتة والإحساس الذي يمكن أن تنطقه يد الفنان. عملي مع المعدن يشبه حوارا صامتا بيني وبينه؛ أتعرف إلى مقاومته، وأصغي لإيقاع المطرقة حتى يبدأ في الاستجابة، ويتحول إلى عمل فني يحمل روحا".
من خلال "ورشة آيات"، تسعى إلى نقل شغفها بالمعدن إلى الجيل الجديد، وتقول: "أسعى إلى أن أجعل من الورشة مساحة للتعلّم والمشاركة، وأدرك أن التحدي الأكبر في نقل الحرفة هو أنها تحتاج إلى وقت وصبر طويل لإتقانها. ومع ذلك، نشهد اليوم وعيا متزايدا بقيمة الحرف التقليدية، وإقبالا من الشباب على تعلمها".
وتختتم بقولها: "أنشأنا مجتمع الصاغة في السعودية، ليكون مساحة نتبادل فيها الخبرات، وندعم بعضنا البعض كحرفيين ومصممين محليين. أؤمن بأن مستقبل الحرف اليدوية في السعودية مزدهر ومبشّر، ومدعوم بشغف الجيل الجديد واهتمام المؤسسات الثقافية".