لماذا يجب أن تستمر الثقافة السعودية بصفتها مصدر إلهام في أسبوع الأزياء في الرياض؟

لماذا يجب أن تستمر الثقافة السعودية بصفتها مصدر إلهام في أسبوع الأزياء في الرياض؟

محمد يوسف
3 ديسمبر 2025

ما إن أغلق المصممون باب الموسم الجديد من أسبوع الأزياء في الرياض، حتى انطلقت الحوارات على مستويات الثقافة المختلفة. ونحن، مع وصولنا للنسخة الثالثة من الأسبوع، بدأنا نتخطى الحديث عن الجماليات وشعور الإنجاز، وأصبحنا نناقش الاتجاهات الفكرية الجديدة للأسبوع إلى جانب الألوان والقصَّات التي هيمنت على معظم المجموعات. بعد أن قدمت العلامات تصوّراتها الفنية الخاصة، كان هناك عدد من العلامات التي ترجمت، من خلال مجموعتها، زوايا ثقافية سعودية، انطلاقا من قرمز التي تناولت منطقة الشمال في تصاميمها، ومن ثم ريم الكنهل التي صاغت الأزياء التقليدية بأسلوب تفكيكي، ووصولا لأروى العمّاري التي صنعت من عرض ARAM عالما متكاملا مبنيا على حياة "الكروز" ونهضة مشاريع البحر الأحمر. هؤلاء المصممون لم يقدموا وجهات نظر إبداعية فحسب، بل أعادوا صياغة الحاضر والتاريخ المحفور بالذاكرة عن طريق الموضة.

وعد العقيلي
وعد العقيلي

الأزياء بطبيعتها هي ناتج النظر والعيش في بيئة معينة، يأتي مثلا ثوب الرجل السعودي التقليدي أبيض وفضفاضا حتى يتناسب مع مناخ نجد وطبيعتها الصحراوية، ولذلك فإن ميزة المصمم هي إعادة ترجمة الواقع الذي يحيط به مع امتداداته، تماما كما فعل كريستيان ديور عندما استشعر حاجة باريس لشعور الفخامة والترف بعد الحرب العالمية الثانية، وقدم مجموعته الأولى. قصص المصممين الكبار معظمها تقول إنهم قدموا أفضل ما لديهم عندما نظروا إلى ثقافتهم، وعادوا إلى ذاكرتهم، وهذا ببساطة لأنهم باستلهامهم من ثقافتهم يقفون في المنطقة التي يعرفونها جيدا، ويعرفون قصصها ومشاعرها وكيف يمكن أن تتطور وإلى مدى يمكن إعادة تشكيلها ودفعها للأمام.

استمرار الثقافة السعودية كمصدر إلهام في أسبوع الأزياء في الرياض ليس مجرّد مسألة شكلية فحسب، بل هو عملية تدوين مستمرة للهُوية السعودية وقصصها. كما أن الاستلهام لا يعني فقط استخدام نقوش أو قصَّات تقليدية، بل يعني فهم السياق التاريخي والجغرافي لتلك العناصر والتعبير عنها بطريقة فنية. وهو أيضا وسيلة لتعزيز أهمية هذه المنطقة، فالمصمم لا ينتهي دوره بمجرد أن يضع تصاميمه على منصة العرض، بل يُكمل الرواية مع من يرتديها ويتأثر بها. هناك سبب واضح لندرة وجود الأزياء التقليدية، وتحديدا النسائية، في حياتنا اليومية، وببساطة لأن النظر الإبداعي إليها قد توقف، لكننا إلى اليوم نرتدي البنطال والمعاطف الغربية التي صُنعت قديما لأهداف عملية، لأن الاستلهام منها لم يتوقف.

قرمز
قرمز 

كما أن الثقافة هي أحد المحميّات في الموضة، لأنه عندما يستلهم المصمم من ثقافته، فهو يستخدم إحدى الطرق الصحيحة للحفاظ على تراثه وللتعبير عن جماعته. ولا توجد هناك موضة صُمَّمت من العدم، فكل قطعة ملبسية هي امتداد متطور لثقافة ما، ولذلك، أصبحت البصمة الثقافية اليوم هي طريق المصمم للميزة التنافسية، ومن هذا المنطلق شاع مفهوم "الاستيلاء الثقافي"، وهو أن يستخدم المصمم رموزا وشخصيات من ثقافة لا ينتمي إليها. يُدرك عالم الأزياء معنى أن تكون مبدعا بجذور عريقة، وقصص خاصة، وأن أي ثقافة في العالم لن تتجلى بأفضل صورة لها إلا من خلال المبدعين الذين ينتمون إليها. كما أن الثقافة شكل من أشكال الامتياز والفخامة الحصريّة لدى المصمم، فمثلا عندما تضع شهد الشهيل السدو بألوان مختلفة على أكمام قميص أسود، فهي بدورها تضيف لتصاميمها قيمة الحرفة اليدوية العالية، وتضع أعمالها ضمن قصة وتصوّر جمالي عميق. وعندما يستخدم عبدالرحمن العابد الجاعد بديلا للمنك، فهو يقدم ملمسا ورائحة مألوفة وغير مستوردة تعزّز من شعور الأصالة، وهو بالضبط ما يتجسّد من خلاله معنى القطعة الفاخرة.

يرتبط مفهوم الفخامة في الموضة بتقديم سلعة باهظة الثمن، والحقيقة هي أن هذه النتيجة وليس السبب. لا تستمد الموضة فخامتها من المواد الفاخرة أو النادرة المستخدمة لصناعة التصميم فقط، بل من اليد التي عملت على تنفيذها وخبرة الحرفة اليدوية، ومن العقلية الابداعية التي فكّرت بطريقة استثنائية، ومن السياق الذي جاءت منه الفكرة، ومن الطريقة التي ستقدم من خلالها القطعة. المنتج الفاخر شعور عميق قبل أن يكون اسم مصمم، هو ملمس ورائحة وأسلوب حياة يتمركز بين الفرد وما يرتديه. والفخامة بالأساس مفهوم متجذر في الهُوية السعودية، ويمكنك رؤيته في تعدّد طبقات الزبون الحجازي، وفي قَصَّة البشت الحساوي الواسعة وأطرافه المطرّزة بالزري، وفي حقيقة أن الرجل السعودي يعتمد على التفصيل الخاص لتصميم ثيابه، ومن عبق البخور في نهاية كل مناسبة.

ريم الكنهل
ريم الكنهل

وكل هذه العناصر، هي اللغة المشتركة بين مصمم الأزياء ورؤية وزارة الثقافة في أن تزدهر المملكة العربية السعودية بمختلف ألوان الثقافة، لتثري نمط حياة الفرد، وتسهم في تعزيز الهُوية الوطنية، وتشجع الحوار الثقافي مع العالم. وما الموضة الحديثة غير أنها امتداد لأصالة الأزياء التقليدية؟ إن الاستلهام من ثقافة وتراث المملكة يجعل دور المصمم السعودي أقوى من ناحية التأثير والارتباط العاطفي بالجمهور، فهو بذلك ينتقل من حدود الموضة إلى إعادة سرد التاريخ بالصيغة التي يفهمها الجيل الحالي.

كما أن التصميم المستوحى من زوايا سعودية له بُعد يتخطى عروض الأزياء، لكونه يتحوّل من قطعة إلى معلومة جديدة في ذاكرة الحضور ورؤية إبداعية قريبة من الوجدان. العالم ليس بحاجة إلى فكرة مكرّرة أو مفهوم اعتيادي، بل يحتاج إلى نظرة مميّزة مختلفة عن السائد، وهذا ما تقدمه الثقافة للمصمم. ولأن جزءا كبيرا من تاريخنا مبني على الذاكرة، يجب على الثقافة السعودية أن تستمر كمصدر إلهام للمصمم السعودي حتى لا تتوقف الهُوية عن سرد نفسها، وحتى نستكشف الروايات التي لم تروَ، ونعود إلى كل الحروف التي كوّنت أسماءنا، وحتى نصوغ تعريفا خاصا لشكل الموضة في الرياض، كما أن الثوب والعباءة والجبّة وثوب النشل والمنيخل هي أول ملامحنا السعودية أمام العالم.