خاص "هيَ": زياد البوعينين... فوز يكرّس مسارًا ناضجًا وصوتًا سعوديًا مستقرا عالميًا
عندما نقترب من إبداع يتكوّن من الداخل ويُطلّ على العالم بثقة هادئة، ندرك أننا أمام قوة تُعبّر عن زمنها بشفافية. في المشهد السعودي، يتقدّم زياد البوعينين كصوت يملك جذورًا عاطفية ورؤية فنية واعية. صوت سعودي نابع من روح المكان، يجد امتداده في أرض عالمية تحتضن التطور وتمنح الإبداع مجالًا رحبًا للحضور. يتعامل مع الأناقة كفكرة تُبنى، ومع الخامة كلغة، ومع التصميم كمساحة تُستعاد فيها الحكاية وتتشكّل فيها الرؤية.

منذ بداياته، قدّم زياد نفسه كمصمم يرى الأزياء كحالة تعبيرية تتقاطع فيها السينما مع الطفولة، والفضول مع الحركة، والوعي مع اللعب. كل مجموعة صاغها كانت تحمل أثرًا من حياته، من أسفاره، من انتقالاته بين مدن تشبه النوافذ المفتوحة: لندن، نيويورك، طوكيو، الخبر… مدن صنعت فيه فضول الإنسان قبل خيال المصمم. هذا العمق في التجربة الذاتية هو ما منح أعماله بُعدًا إنسانيًا يتجاوز حدود المنصة.
فوز زياد بجائزة FTA Eveningwear Prize 2025 امتداد لمسار داخلي ناضج. مسار ينطلق من فهم بأن القطعة تكتسب قيمتها من قصتها ونيتها، وأن العمل الحقيقي يقوم على العمق لا على الواجهة. الجائزة تُظهر طبقة جديدة من نضجه الفني، وتُعيد وضع تجربته ضمن حركة سعودية صاعدة تتجه بثبات نحو العالم، محتفظة بنبرة المكان وحرارته.


مجموعاته الأولى، وانتقاله إلى لندن، ومجموعات مثل Daisies، تكشف عن مصمم يرى القماش كوثيقة زمنية، ويصل بين السينما والفن والذاكرة والتنقّل والتراث بطريقة تربط عالمه الداخلي بالعالم الذي يتحرك فيه. ومع ذلك، تبقى أبرز مراحله تلك المجموعة المستوحاة من طفولته في الخبر خلال التسعينات. مجموعة تنسج مشاهدها من أرائك الموارِيه في بيت الجد، ومن الشاشة المسائية للقناة السعودية الأولى، ومن حديقة الجدة التي امتلأت بالبوغونفيليا الوردية، ومن تدفق عباءتها السوداء الذي تبعها كظلّ في سوق الذهب والفواكه. ذكريات يُعيد تشكيلها في لغة بصرية مشغولة بالحنين ودقة الملاحظة.



المجموعة تتوازن بين وضوح الحكاية وغموض الصورة. يبدأ العرض بتوب لامع برقبة عالية وتنورة بفقاعة هوائية تحمل طبعة كروية ضخمة مستوحاة من مقدمة القناة الأولى. يتبعها فستان أسود من الموارِيه بقصّة A-line، ثم فستان أبيض طويل بكتف واحد يستعيد إحساس الثوب الرجالي، ويقدمه بمنطلق بصري يجمع الهوية بالتجربة.
أما الطبعات الملونة التي تبدو كأنها “تشويش جميل”، فهي صور مكبّرة لشرائح صخرية سعودية تحت المجهر. تتحول إلى لوحات لونية تجمع درجات الأرض مع ومضات زرقاء وردية وخضراء، فتغدو الخامة منطقة تتقاطع فيها الجغرافيا مع الذاكرة والعاطفة مع المادة.
هذه المجموعة تكشف رؤية زياد: ذاكرة تُعاد صياغتها، وطفولة تُروى بحس ناضج، وخيط يُمسك بالحنين دون استحضار مباشر للماضي.
وحين يتحدث زياد عن الفوز في حديثه الخاص لـ”هيَ”، تتضح طبقات أعمق من التجربة:
“يشبه هذا الفوز حالة تجمع بين الدهشة والطمأنينة في آن واحد. أعادني إلى اللحظة التي بدأت فيها الإبداع أثناء مرحلة صعبة من حياتي، المرحلة التي أعادت ترتيب داخلي ومنحتني قدرة جديدة على الأمل. اليوم أشعر أن الرحلة التي بدأت من تلك النقطة وصلت إلى مساحة تراها لجنة من خبراء تقدّر القصص الصادقة والجهود العميقة.
هذا التقدير يؤكد أن الحفاظ على صوتي الإبداعي كان خيارًا صحيحًا، وأن الشحنة العاطفية والنية التي أضعها في كل قطعة تجد صداها عند الآخرين. وجود محكمين بهذا الوزن يؤمنون برؤيتي شعور يصعب التعبير عنه كاملًا. ما حدث يرسّخ قناعتي بأن الطريق الذي أمشي فيه يحمل معنى، وأن الحكايات التي أحاول صياغتها في أعمالي تجد مكانًا لها في العالم.
أتعامل مع هذا التكريم كعلامة فارقة تؤكد أن الأصالة والإصرار والصدق تقود الإنسان إلى موقعه الطبيعي.”

هذا الوعي يضع الفوز في سياقه الحقيقي: لحظة عمق، اقتراب من الذات، وتكريس لمسار يعرف اتجاهه.
وعندما يرسم ملامح المرحلة المقبلة، يصبح البناء أوضح:
“أكثر ما يحمسني في المرحلة المقبلة هو النمو المدروس. فرصة تلقي الإرشاد من قامات تفهم الصناعة العالمية ستساعدني في بناء العلامة بذكاء، مع الحفاظ على الجوهر الفني والعاطفي في عملي.
الدعم المالي يفتح أمامي مجالًا لتوسيع الاستوديو، إضافة أيادٍ جديدة، والاقتراب من إنتاج قطع للمساء بأسعار أكثر وصولًا. كما يمكّنني من تحسين تجربة العملاء والمنصة الرقمية، وهو جانب رغبت منذ فترة في الارتقاء به.
أرى هذه المرحلة كمرحلة تأسيس تُبنى فيها القواعد التي تمنح العلامة قدرة على التمدد الواعي. الجائزة منحتني أدوات أحتاجها، وتركت الباب مفتوحًا لأحلام أكبر.”

هذا التصور ينسجم مع طريقته في العمل، توسع محسوب يقوده نور داخلي و ليس ضوء خارجي. وعندما يتناول أثر الهوية السعودية ودوره الثقافي، تتضح أهمية ما يصنعه:
“أبحث عن تقديم رؤية جديدة للأناقة السعودية، رؤية تحمل ثقة وعمقًا عاطفيًا وفهمًا مختلفًا للغرض من التصميم. نملك في السعودية جيلاً واسع المعرفة ومبدعًا وصادقًا في تعبيره، ومع ذلك يراه البعض من زاوية ضيقة.
هذا الجيل يقدم مقاربات عميقة للهوية، ويتعامل مع الأناقة كوسيلة لفتح باب للمعنى. فوز FTA منحني إحساسًا أكبر بالمسؤولية تجاه تمثيل هذا التحول.
أريد لأعمالي أن تصل إلى جمهور عالمي من دون أن تغادر الروح التي أحملها، وأن يشعر الشباب في السعودية والمنطقة أن قصصهم تمتلك وزنًا وقدرة على الوصول.
القصة التي أعمل على تقديمها ترتبط بالمرونة والاحتمال. أرى الأناقة كمساحة يمكن أن تجمع بين الوعي والجاذبية، وأرى في الإبداع القادم من منطقتنا قدرة طبيعية على الحضور العالمي.”
هنا يظهر جوهر زياد: روح سعودية تتحرك في عالم مفتوح، وقيمة تعرف موقعها، وإبداع يملك رصانة الامتداد.
تجربة زياد اليوم ليست محطة فردية، بل جزء من سردية أوسع لصناعة سعودية تُعيد تشكيل موقعها في الخريطة. سردية تعتمد على الوعي، وتكتب فصولها بخيط هادئ، وتفتح بابًا لصوت يملك القدرة على البقاء.
مشهد الموضة السعودي يعيش عامًا يتغيّر فيه ميزان القوة، ويتقدم فيه الجيل الذي يعمل بعمق… وزياد البوعينين أحد أبرز وجوه هذا التغيير.
وجه يشبه الجيل الجديد: حالم، صادق، مُنصت، ومُصرّ على أن تكون كل قطعة يحملها اسمه امتدادًا لمشاعره.
هذا هو زمنه… وزمن الجيل الذي يشكّل حاضره ومستقبله.
