
خاص لـ"هي": بين خيوط العنكبوت وزخارف العمارة الإسلامية، فرح المِسباح تنسج مجموعتها الجديدة
في زمنٍ تحوّل فيه الخطاب البصري إلى صدى فارغ، تخرج المصممة الكويتية فرح المِسباح بمجموعة لا تُشبه إلا ذاتها.
مجموعة "الآيات" ربيع وصيف 2025 للأزياء الراقية هي نشيد مطرّز من الحِكمة، محفور بخيوط الإيمان، ومُكلل بهالة من التاريخ الروحي. تُغلق فرح دفاتر الاستلهام الغربية هذه المرة، وتفتح خواطر الرؤية الداخلية لتغوص في لحظةٍ من أعظم لحظات التاريخ الإسلامي، تلك التي حدثت في كهفٍ بسيط على أطراف مكة، فغيّرت وجه الحضارة.
في حوار حصري مع مجلة “هيَ”، جاءت كلمات المصممة كأجوبة تنبض بالبصيرة، وكأنها فصول من سردٍ داخلي انساب دون تكلّف، عاكسة صدق التجربة وعمق التأمل.

تبدأ القصة، لا في مرسم أو مكتبة، ولكن في صالون عربي تقليدي داخل منزلها، حيث تقول:
“لطالما رغبت في تصميم مجموعة مستوحاة من الثقافة العربية، لكنها موضوع واسع جدًا، وكنت أبحث عن زاوية تثير فضولي بشكل خاص. فالإلهام، كما أراه، لا يُستدعى، بل يأتيك حين يشاء. وحدث ذلك بالصدفة، كنت مستلقية في صالون عربي، تحديدًا على أريكة وسجادة من السدو في منزلي بعد الظهر، وكانت الشمس تتسلل من النافذة. وبينما أحدّق في الجدار، لمحت عنكبوتًا بمظهر لافت. لطالما أحببت العناكب، فثمة رمزية روحية ترتبط بها من وجهة نظري، ولهذا لا أؤذيها ما دامت غير مؤذية. لكن تلك اللحظة جعلتني أتأمل: كيف لمخلوق بهذه الهشاشة، بشبكة بالكاد تُرى، أن يحمل طاقة الحماية والخداع البصري في آن؟ كان في ذلك شيء من السحر الخالص. وكأنه تذكير بأن الحماية قد تأتي بأبسط صورها، وأن الهشاشة الظاهرة قد تخفي قوة حقيقية. وجدت نفسي بعد ذلك أغوص في تفاصيل الجزيرة العربية في القرن السابع، في أهلها، نمط حياتهم، وعناصر بيئتهم. وتساءلت كيف يمكن لمشهد بسيط كشبكة عنكبوت أن يُغيّر مجرى السرد الحضاري، ويترك أثرًا لا يُمحى في الذاكرة الجماعية.”


لكن هل كانت مجرّد مصادفة بصرية؟ أم لحظة تأملية ذات صدى عميق؟ تتابع فرح:
“بالفعل! شبكة العنكبوت كانت واجهة تُوحي بعدم وجود حياة، بينما في الحقيقة كان خلفها عالم نابض واحتمالات ممتدة. وامرأة فرح المسباح هي امرأة قوية وواثقة، تعرف ما تريد ولا تخشى التعبير عن ذاتها. أما فساتيني، فهي واجهة تُجسد شخصيتها الخارجية، لكن خلف كل مظهرٍ هناك امرأة حساسة، شفّافة، مليئة بالمشاعر وتملك رؤية تتجاوز اللحظة. في نظري، شبكة العنكبوت رغم هشاشتها الظاهرة، هي رمز للحياة والزمن، فاختياراتنا اليومية، وملابسنا تحديدًا، هي خلاصة تراكمية لما مررنا به من مشاهد وتجارب وقرارات. كل قطعة نرتديها هي انعكاس لما عشناه، لما رأيناه، ولما نرغب أن نكونه. وهذا لا يختلف كثيرًا عن كيفية اختيار العنكبوت لمكان بيتها، وطريقة نسجه وشكله.”
هكذا، وُلدت “الآيات” كنسيج خفيّ بين المعجزة والحرفة، بين الإيمان والتصميم، بين المرأة والثوب.
في هذه المجموعة، يتسلل الفن عبر خطوط القباب، ويتماوج في انحناءات القوافل، ويُطرّز كضوء النجوم في عتمة الصحاري. وعن ترجمة هذه الرموز بصريًا، تقول:
“أحب التعبير عن إلهامي من خلال الصورة الظلية، وأستخدم التطريز لتعزيز الرؤية البصرية. على سبيل المثال، ستجدين ياقة منحنية تستحضر شكل الجبال والكثبان الرملية، وأحجارًا كريستالية بأحجام متفاوتة تحاكي النجوم الصغيرة والكبيرة، وحتى الشهب المتساقطة من خلال تأثير التعليق المتدرج. هناك أيضًا القصّات التي تذكّر بمداخل الكهوف، والتنانير الواسعة عند الورك التي تعكس الخطوط الانسيابية للقباب المعمارية، إضافة إلى الحواف المدببة في الياقات والتنانير التي تستلهم الأقواس المتكررة في عمارة المنطقة. كل تفصيل مضاف يحمل دلالة بصرية وروحية، وكأنه جزء من سردية متكاملة تنبض بالرموز والذاكرة.”



كأن كل قطعة تُعيد كتابة الذاكرة، لا تُمثّلها فقط. فلا قصة بلا قوس، ولا فستان بلا رمز. الجمال هنا لا يُصمَّم… بل يُتأمّل.
لكن التحوّل الأهم، لم يقتصر على التصاميم وجمالياتها الإبداعية وإلهامها البصري، بل امتد إلى الجغرافيا. للمرة الأولى، تُعرض المجموعة في الرياض بدلًا من باريس، وتلك لم تكن خطوة لوجستية، بل اختيارًا واعيًا للزمان والمكان، وبيانًا ثقافيًا بأبعاد شخصية. تقول فرح:
“السبب الرئيسي لقدومي لعرض المجموعة في الرياض هو أن هذه المجموعة تحتفي بجذور تاريخية وثقافية عميقة ترتبط بالمنطقة، وأردت أن أكرّم الناس وألهمهم بما ألهمني. في الواقع، هذه أول مجموعة أقرر عدم عرضها في أسبوع باريس للموضة، لأنني شعرت بأنها تنتمي إلى هذه الأرض، ويجب أن تُقدَّم في سياقها الحقيقي. لهذا عرضتها أولًا في مدينة الكويت، والآن في الرياض. كانت التجربة في الرياض رائعة، ودائمًا ما قدّرت كيف أن السعوديين شغوفون بالفن والثقافة ومرتبطون بهويتهم. وعندما شرحت تفاصيل الفساتين، لاحظت ابتساماتهم الجميلة وتقديرهم الفوري. كانوا يشاركونني القصص والمعرفة المرتبطة بالتفاصيل التي أتناولها، وكانوا في غاية الترحاب بمجرد معرفتهم أنني من الكويت. شعرت فعلًا أنني بين أهلي، ولن تكون هذه زيارتي الأخيرة.”



أمام هذا التوجه الجديد، هل نُعاين ولادة فلسفة جديدة في أسلوب المسباح؟
“نعم، لكنني أشعر أنها ستكون أكثر عن الثقافة المحلية وكيف أُجرب العمل بها، سترين بالتأكيد عناصر مماثلة تعود في المجموعات القادمة لأنها في النهاية هويتي. أما عن الرموز الدينية والروحية، فلا أعلم ما يحمله المستقبل، لكن المواضيع الروحية مميزة وبرأيي لا يجب استغلالها كثيرًا، بل يجب معاملتها بأقصى درجات الاحترام.”
الهوية هنا ليست مجرد جذور، بل امتداد نحو أفق رمزي، في توازن بالغ الحساسية بين الاحترام والابتكار. ولأن التعامل مع الرموز ذات الطابع الروحي أو الثقافي ليس أمرًا سهلًا، تُعلّق فرح:
“بصراحة، هذه أصعب مجموعة عملت على تطويرها، لأنها مشبعة بطابع تأملي وتحمل رموزًا حساسة كان عليّ توظيفها بحذر شديد، حتى لا تُساء قراءتها. برأيي، عندما يتناول المصمم مرجعيات لا تنتمي لبيئته المباشرة أو لم يلمّ بأبعادها الكاملة، من الأفضل الابتعاد عن الترجمة الحرفية أو الاقتباسات المباشرة. لكن إن قرر الاستمرار، فعليه تجنّب التكرار الواضح للرموز والتفاصيل الظاهرة، واللجوء إلى إعادة تركيب العناصر بشكل غير مباشر، ضمن رؤية هجينة تبتعد عن النقل وتقترب من التجريد. على سبيل المثال، فستان “Purity” استوحيت خطوطه من ملابس طقسية بسيطة تُعبّر عن النقاء والتجرد، واستلهمت منه اللون الأبيض، والخفة، والانسيابية، والبساطة. كل هذه العناصر شكّلت الأساس البصري للفستان، الذي يبدو للوهلة الأولى مستوحًى من الفساتين الإغريقية، لكن بمجرد أن أشير إلى مصدر الإلهام، تُصبح مرجعيته أوضح. أنا شخصيًا أحب أن تكون مصادري غير مباشرة، وأعتقد أن هذه الطريقة هي الأكثر احترامًا وحِرفية عند التعامل مع الموضوعات الرمزية. فالإشارات الواضحة لا تكون دائمًا في صالح العمل، وقد تُحد من تلقّيه أو تُغلق أبواب التأويل أمامه.”


ولكن ماذا عن روح التمرد التي لطالما تغذّت منها دار فرح المسباح؟
“أعتقد أن التمرد والروحانية يسيران معًا على نفس الخط! يحتاج التمرد إلى الكثير من الإيمان والثقة لفعل ما تؤمن به. وإذا فكرت في الأمر، ستجد أن من سبقونا في العصر الذهبي كانوا روحانيين ومتمردين من خلال تجريبهم واستكشافهم لأشياء مختلفة، وفعلهم للأشياء بطرق مغايرة، وتعلمهم واختراعهم، جعلهم يخلقون المعجزات! لا أؤمن بأنه عندما تكون روحانيًا ستلجأ إلى الجانب الآمن، بل على العكس، تمنحك الروحانية القوة والثقة، وفكرة أن الله معك لأنك تضع ثقتك به، تمنحك ثقة هائلة. أشعر أن رحلتي كلها حتى الآن تُختصر بهذه العبارة. أما كيف عكست ذلك في هذه المجموعة، فهي وجهة نظري وما يجري في لا وعيي، وإن حوّلت هذه الأفكار إلى فساتين، فستكون النتيجة ما قمت بابتكاره في هذه المجموعة. وعلى الرغم من أن تركيزي الأكبر كان على الجزيرة العربية والعرب، فقد حاولت تكريم بقية الأعراق الإسلامية التي ساهمت في الإمبراطورية والثقافة.”



وبينما لكل مجموعة في أرشيف الدار قطعة خالدة، مثل “ليلى” و”إليزابيث”، أسألها في هذا الحوار عن القطعة التي تستحق الخلود في “الآيات”. تُجيب:
“سيُحدد ذلك من خلال استقبال العميلات، لكن حتى الآن أعتقد أن فستان "هلال" لديه إمكانات كبيرة للعودة. شعرت أن عميلاتي أحببن الإحساس بالأنوثة والارتباط بهويتهن عند ارتداء هذا الفستان.”



ربما لأن “الهلال”، كرمز، ليس فقط بداية دورة زمنية… بل بداية التجلي.

فرح المِسباح أَحيت ذاكرة تأملية في عالم الأزياء الراقية وأعادت صياغتها بصريًا، بجرأة نادرة لا تخشى مزج الروكوكو بخامات محمّلة بالدلالات، ولا ترى في العنكبوت كائناً هشاً، بل بنّاءً بصريًا دقيقًا. “الآيات” تبعد كُل البعد عن كونها مجموعة موسمية… بل تتجلى كمشروع رمزي مُفعم بالعاطفة، التوتر، الإلهام، والحنين.
إنها فساتين وُلدت من إيحاء، نسجتها امرأة ترى في الظلال بصيرة، وفي الخيوط حكاية.