
"ديور" بأعين "أندرسون": حين تلتقي التجربة بالحرفة وتبدأ العاصفة
في سابقة لم يشهدها تاريخ الدار منذ أيام مؤسسها، أعلنت Dior رسميًا أن المصمّم الأيرلندي "جوناثان أندرسون" سيتولى القيادة الإبداعية الكاملة للدار، متسلّمًا زمام التصميم لكل من الأزياء النسائية والرجالية، بالإضافة إلى مجموعات الأزياء الراقية. بهذا القرار، تدخل "ديور" حقبة جديدة تتكثف فيها الرؤية وتتشابك فيها الحساسيات، لتُعاد كتابة هوية الدار الفرنسية العريقة بأكثر الأقلام تمردًا وذكاء.
"جوناثان أندرسون" لا يعبّر عن الجمال، بل يستفزّه. لا يصنع الموضة كما تُصنع في الكواليس المألوفة، ولكن يعيد اختراعها كما لو كانت مادة أولى جاهزة للنحت، للشك، وللتجاوز. وبين يديه، تدخل Dior مرحلة من التوتر الإبداعي الخلّاق، تتّسم بالشكّ لا اليقين، وبالأسئلة لا بالزينة. ولأول مرة منذ "كريستيان ديور" نفسه، تُمنح الرؤية الكاملة لمصمم واحد، ليكون الحَكَم والمهندس والراوي لكل ما يخرج من مشاغل Avenue Montaigne 30.

في عُمر الأربعين، يجد "أندرسون" نفسه أمام مهمة ثقيلة بثقل التاريخ، وأغلال التوقّع. فمن دار كانت رمزا للمثالية الأنثوية، ومقصدا ملكيًا للأناقة الأرستقراطية، تتحوّل بين يديه إلى مختبر جمالي مفتوح، تُختبر فيه حدود الحرفة وحدّة الفكر. ماذا سيصنع أندرسون من المظهر الجديد “New Look”؟ هل سيرسمه من أعشاب حية؟ هل سينحته من صخر اللؤلؤ؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات ليست مؤكدة، بل مستحيلة وهذا ما يجعل لحظته أكثر إثارة.



من "ديور" المؤسس، إلى صاعقة الشاب "إيف سان لوران"، إلى انضباط "مارك بوهان"، وثراء "فيري" الإيطالي، والشاعرية المسرحية لـ"غاليانو"، واتزان "سيمونز"، وصولاً إلى التجديد التجاري والفكري الذي قادته "ماريا غراتسيا كيوري"، تقف الدار الآن أمام منعطف لا يُشبه أيًّا مما سبق. فالمصمم القادم من Loewe لا يتضح انه سيعيد تدوير الرموز، بل سيُفككها، ويعيد تركيبها ضمن عوالم هجينة تمزج بين الفكاهة والهوس والتساؤل الفلسفي. إنه فنّ مضاد للزخرفة السطحية، لكنه مغمور بالجمال المُتقن.






تعيينه يُمثّل تحوّلاً في بنية الدار وإعادة رسم لموقع Dior ضمن المشهد الفاخر العالمي. فالموضة اليوم تشهد تحولات بنيوية في مراكز السلطة الإبداعية، من "شانيل" بإدارة "ماتيو بلازي"، إلى "غوتشي" مع "ديمنا"، ودار Loewe تحت الإدارة الإبداعية لـ"جاك ماكولوف" و "لازارو هيرنانديز" بالإضافة إلى دور مثل "بوتيغا فينيتا" و "فيرساتشي" و "جيل ساندر"، الجميع يعيد تعريف معنى الفخامة وسط سوق مترنّح ومُطالب بالإبداع الحقيقي.
ولن يكون الحمل خفيفًا. "جوناثان أندرسون" مطالب بإخراج 10 مجموعات سنويًا لـ Dior، من ضمنها اثنتين للأزياء الراقية، بالإضافة إلى ست مجموعات لـJW Anderson، وتعاونين سنويًا مع Uniqlo. بهذا، يصبح "أندرسون" المصمم الأكثر إنتاجًا في القطاع منذ أيام "كارل لاغرفيلد"، وتُلقى عليه مسؤولية جمّة من حيث الكمّ والنوع، من حيث الحفاظ على توازن بين التفرّد والإرث، بين الابتكار والوضوح التجاري.

لكن نجاحه في Loewe لا يمكن تجاهله، فقد حوّل الدار الإسبانية من شركة جلود كلاسيكية إلى مختبر للموضة المفاهيمية وواحدة من أكثر علامات المجموعة تحقيقًا للأرباح، بأسلوب يكاد يُصنَّف ضمن الأساطير الحديثة في إدارة الإبداع الربحي. السؤال الآن: هل يمكن تطبيق هذا النموذج على Dior؟ وهل يمكن إخضاع جوهر الأزياء الراقية العاطفي والتقني لتلك الروح التجريبية من دون أن يُفقدها معناها الرمزي والوجداني؟
ربما تكون الإجابة الأهم هي أن Dior لم تعُد تبحث عن “نُسخة جديدة” من ماضيها، بل عن “تصوّر مُعادٍ” لمستقبلها. فاختيار "جوناثان أندرسون" ليس خطوة دفاعية، بل حركة استباقية تهدف إلى إعادة اختراع الدار من الداخل، لا فقط من على المنصات. إنه تعيين يفضّل الجرأة على الأمان، والذكاء على المعادلة، والمُجازفة على التكرار.
ما نحن على وشك رؤيته هي مجموعات جديدة، ولكنها فعلياً اختبار حيّ لمعادلة الأزياء الراقية في القرن الحادي والعشرين. "ديور" كما عرفناها لن تعود. لكنها ربما تصبح شيئًا أبعد، أذكى، وأقوى. والوقت وحده سيحكم إن كانت العاصفة القادمة ستحمل اسمه فقط أم ستُعيد كتابة تاريخ الموضة من جديد.