
دار الألف وجه.. كيف تعيد التحوّلات الإبداعية نحت ملامح الدور الأكثر عراقة في عالم الموضة
إعداد: Nora AlBesher
في عالم يركض بلا هوادة، حيث تتحول الثوابت إلى لحظات زائلة، تقف دور الأزياء العريقة أمام مرآة لا تعكس وجها واحدا، بل ألف وجه ووجه. لم تعد هوية الدار مرتبطة فقط بالرموز التي رسّختها، بل باتت مسألة وقت، وقرار، وموسم واحد قد يغيّر الملامح ويعيد تشكيل الموروث.

Antonio de Moraes Barros Filho/WireImage
بواسطة: Getty images
لـم يكن عام 2024 مجرّد موسم من الصيحات العابرة أو اللقطات الفوتوغرافية المثيرة للجدل على السجادة الحمراء؛ على العكس، كان عام الزلازل الإبداعية بامتياز. خريطة الموضة اهتزت، وتشققت تضاريسها تحت وطأة موجات متتابعة من الخروج والدخول، من وداع الأسماء الراسخة إلى استقبال رؤى جديدة تحمل وعودا وتجارب، ولكن أيضا شيئا من الخوف. وما زالت هذه التحولات مستمرة بوتيرة متسارعة في عام 2025، وهو ما يجعل من هذا التقلب ظاهرة ممتدة لا مجرد حدث عابر.
عشرون اسما وربما أكثر، تركوا مناصبهم باعتبارهم مديرين إبداعيين في دور لطالما ارتبطت بالخلود لا بالتجريب المؤقت. من "فيرساتشي" التي غادرتها "دوناتيلا" للمرة الأولى، إلى "شانيل" التي ودّعت "فيرجيني فيارد"، واستقبلت "ماتيو بلازي"، ومن "غوتشي" التي احتضنت "ديمنا" إلى "فالنتينو" التي دخلها "أليساندرو ميكيلي"، كل دار تُعيد ترتيب رموزها، وتعيد تعريف ذاتها في سباق مع الزمن.

خريف وشتاء ٢٠٢٤ للملابس الجاهزة
فهل لا يزال بالإمكان الحديث عن "هوية" لدار أزياء، أم أننا دخلنا زمن "إعادة التعريف" المستمر؟
المفارقة أن منصب المدير الإبداعي، الذي لطالما كان يتشكل عبر عقود من التراكم البصري والسردي، بات اليوم يقاس بفصول قصيرة، بالكاد تُمنح فرصة للنضج. لم يعد المعيار تأثير المصمم في لغة الموضة، بل على قدرته على البقاء. وفي هذا المشهد، يتكاثر السؤال: هل أصبحت الاستمرارية في حد ذاتها شكلا جديدا من أشكال الرفاهية؟ وهل بات الوفاء للهوية نوعا من المقاومة الهادئة في وجه الطوفان الإبداعي؟

التحولات المتتالية في رأس الهرم الإبداعي لا تمرّ بلا أثر. هناك إثارة حتمية في انتظار الرؤية الجديدة، وبريق الأسلوب المفاجئ، ولهفة التغيير. ولكن في المقابل، ثمة تشويش على المستهلك، على السوق، وعلى الدار نفسها. حين تُختصر الإقامة إلى موسمين، كيف يمكن للرؤية أن تتجذر؟ كيف تنمو شجرة إن اقتُلعت جذورها قبل أن تمتص أولى قطرات المطر؟
دور الأزياء ليست مجرد علامات تجارية، بل هي أرواح متراكمة، أرشيفات حية تنبض بتاريخ من الإبداع. وكل مدير إبداعي جديد لا يبتكر من العدم، بل إنه يرث خزانة من الذكريات، وأسلوبا منقوشا على الأقمشة، وأصوات مصممين سبقوه. وما بين الوفاء للهوية والرغبة في الانقلاب عليها، يولد التوتر، وتتشكّل المعادلة الكبرى لعصرنا: التوازن المستحيل بين الإرث والتجديد.
"جوناثان أندرسون" في "لويفي" مثال على نهاية عصر وبداية فصل غير مسبوق. الرجل الذي حوّل دارا إسبانية متخصصة في الجلود إلى منبر عالمي للحرفية الطليعية والتجريب المفاهيمي، غادر منصبه بعد أحد عشر عاما من الابتكار الخلاق والمركب. حقيبة Puzzle، وتحوّل الجلد إلى نحت قابل للبس، والمزج الذكي بين العبث البصري والدقّة الحِرَفية، كلها بصمات لـ"أندرسون" لا يمكن إنكارها.


لكن ما إن أعلن رحيله حتى كُشف النقاب عن خلفائه: وهما الثنائي الأمريكي "جاك مكولوف" و"لازارو هيرنانديز"، مؤسسا دار Proenza Schouler، اللذان غادرا علامتهما الخاصة ليبدآ مغامرة جديدة في أحضان "لويفي". دخول هذين الاسمين إلى الدار هو انتقال ومنعطف جمالي جديد، يعيد طرح سؤال الهوية بأسلوب آخر: كيف سيتعامل هذا الثنائي مع إرث "أندرسون"؟ هل سيحتفظان بروحه الطليعية أم يعيدان تشكيل النغمة من الصفر؟
الدار، اليوم، تمشي على حبل رفيع بين ما كان، وما قد يكون.

أما “أندرسون”، فقد انجلى الغموض عن مصيره، وتبدّدت التكهنات مع إعلان رسمي حمل وقع القصائد: تولّيه الإدارة الفنية لقسم الملابس الرجالية في دار “ديور”. دارٌ من قلب باريس، أعادت تعريف الأنوثة ذات يوم من عام 1947، وها هي اليوم تمنحه مفاتيح مملكتها الرجالية، ليعيد تشكيل النمط والنبض ضمن أرشيف يُوزن بالذهب. إنها خطوة مهنية ضخمة لـ"أندرسون"، و معاهدة جديدة مع الإرث، تتطلّب شجاعة التفسير لا التكرار، ونَفَسًا طويلًا للغوص في خيوط الدار الكلاسيكية، وصوغها بلغة المستقبل. فهل سيكون “أندرسون” قادرًا على المزج بين حدّته المفاهيمية وأناقة “ديور” الرمزية؟ أم أننا على أعتاب فصل يُكتَب بلون جديد تمامًا؟
في حــيــــن أنّ "جــــون غاليــــانـــــو" في "مـــارجــيــــلا" هو الاستثناء الذي يثـــبت القاعـدة. على مدار عـــــقد من الزمن، أعاد "غاليانو" تشكيــل مفهوم الأزياء الراقية، محولا كل عرض إلى أوبرا شعريــــــة من الضوء والظل، من الألم والدهشة.

ربيع وصيف ٢٠٢٤ للأزياء الراقية
خــــطـ العلامة Artisanal تحول إلى أيقـــــونـــــــــة حـــداثـــيــــة تــنــبـــض بالـــحــرفـــــة والـــرؤيـــــة والــــجــنـــــــون المدروس. وعندما أعلن خروجه فجأة، بدا الأمر أشبه بخسارة معمار فني، لا مجرد مصمم. "غاليانو" قَدم مجموعات مثالية في جنونها الإبداعي وخيالها الجامح ولحظات محفورة في صميم روح الأزياء الراقية.
في "غوتشي"، تتكرّر الدراما: بعد عهد "أليساندرو ميكيلي" الزاخر بالزخارف والرموز، جاء "ساباتو دي سارنو" بجمالية أنقى، تنشد الهدوء بعد العاصفة. لكن وقته القصير لم يسمح له بإقناع السوق أو صياغة لغة بصرية يمكن أن تتحدث عن نفسها. رحل قبل أن يُعرَف، ليحلّ "ديمنا" مكانه، ومعه توقعات ثقيلة وسؤال معلّق: هل سيعيد "غوتشي" إلى قلب المعادلة أم يُغرّبها عن ذاتها أكثر؟


هكذا تتوالى الأسماء، من "فيارد" إلى "بلازي"، ومن "بيتشولي" إلى "ميكلي"، ومن "هاوكينز" إلى "أكرمان"، بينما تبقى الدار في قلب العاصفة، جسدا واحدا تتنازع عليه الأرواح.
نحن في زمن "الموسم الواحد"، ولكن هل يمكن لهوية أن تنمو في موسم؟ هل يُمكن لدار بُنيت على مدى قرن أن تُعاد كتابتها في عرض أزياء مدته عشر دقائق؟
الإجابة ليست سهلة، ولكنها قد تبدأ من هنا: في عالم الموضة اليوم، لم يعد "التجديد" هو التحدي الحقيقي، بل "الاستمرار".

دار الألف وجه، ليست دارا ضائعة. بل هي دار في طور الاكتشاف. وجه يتبدّل، لكن في أعماقه ظل يسأل: من أنا الآن؟ ومن سأكون لاحقا؟ وفي النهاية، قد لا يكون السؤال الحقيقي: من المدير الإبداعي القادم؟ ولكن هل سنمنحه الوقت الكافي لنكتب معه فصلا يستحق أن يُروى؟