ملكات مصر... قائدات حربيات

إعداد وتحرير: أريج عراق عندما بدأت نساء أوروبا خوض معركتهن الكبيرة لانتزاع حقوقهن في نهاية العصر الوسيط وبداية عصر النهضة، كانت المرأة المصرية قد انتهت من تسطير العديد والعديد من الصفحات الناصعة لمجدها، والتي يزدان بها التاريخ ويتعلم منها العالم حتى الآن. لا شك أن الفارق الزمني لعب دوراً كبيراً، فمصر التي بدأ منها التاريخ، لم تكتسب مكانتها هباءً، وحضارة الآلاف السبعة من السنوات لم تُبنى فقط بحجارة الأهرامات والمعابد، لكن عمادها الرئيسي كان الإنسان، وكانت المرأة جزءاً لا يتجزأ من هذا المفهوم. فلم يشهد العالم مجتمعاً يحترم المرأة ويقدر دورها، مثلما كان يفعل المجتمع المصري القديم، حتى أن بعض المؤرخين اعتبروا أنه مجتمع "أمومي"، أي أن الأساس فيه هو الأم وليس الأب. وبينما كانت أثينا وروما – في الألف الأول قبل الميلاد - تتعامل مع المرأة باعتبارها "شيء" ليس له شخصية قانونية، فهي لا ترث ولا تبرم العقود ولا تملك من أمر نفسها شيئاً، كانت ملكات مصر تقود الجيوش لتحرير الوطن قبل هذا الزمان بما يقارب الألف عام. الملكة إياح حتب وتعني قمر الزمان، ومن اسمها جاءت الأغنية الرمضانية الشهيرة "وحوي يا وحوي ايوحا" وهي تعني أهلاً بالقمر، وليس هذا غريباً، فالملكة العظيمة كانت معشوقة الشعب. كانت الملكة ايعح حتب أو إياح حتب تنتمي للأسرة السابعة عشر، التي كانت تحكم طيبة بعيداً عن سلطة الاحتلال الهكسوسي لمصر. ووقفت إلى جوار زوجها الملك العظيم سقنن رع، وشجعته على خوض الحرب، بل وشاركت بنفسها في هذه الحرب، كما يظهر من الأوسمة والنياشين العسكرية الموجودة في مقبرتها، كذلك الجناجر والبلطات. هي ملكة محاربة، وهذا يعني أنها أول إمرأة في التاريخ –على الأرجح- تحصل على نياشين عسكرية، وبعد استشهاد زوجها على يد الهكسوس، قدمت ابنها الأكبر كاموس، الذي استشهد أيضاً من أجل تحرير الوطن، إلا أن كل هذا لم يثنها عن عزمها، فقدمت ابنها الثاني أحمس، الذي نجح أخيراً في طرد المحتل وتحرير مصر، وعاد إلى والدته بالبشارة. فغنى الشعب كله معه "وحوي يا وحوي إيوحا" أو "أهلاً أهلاً بالقمر"، وأسس أحمس الأسرة الثامنة عشرة التي كانت بداية الدولة الحيثة في التاريخ المصري القديم، وأعظم الأسر الحاكمة على الإطلاق. الملكة أحمس نفرتاري هي امتداد للسيرة العطرة للملكة إياح حتب، فهي زوجة الملك أحمس الأول، وبعض المؤرخين يرى أنها ابنتها، ولكنها معلومة غير مؤكدة، نظراً لبشرة أحمس نفرتاري شديدة السمرة، أو أنها ابنتها من زوج آخر غير سقنن رع. وسلكت أحمس نفرتاري طريق والدتها، فدعمت زوجها، وشاركته في الحرب، بل وكانت قائدة فرقة عسكرية كما يتضح من النقوش الموجودة على المعابد. الملكة حتشبسوت هي غنمت آمون حتشبسوت بمعنى: خليلة آمون المفضلة على السيدات أو خليلة آمون درة الأميرات. وهي أيضاً ماعت كا رع، أو العدل روح رع، ابنة الملك تحتمس الأول حفيد الملك أحمس (الأسرة 18)، وزوجة الملك تحتمس الثاني، وكانت هي الوريث الشرعي للحكم، حيث أن زوجها كان ابناً غير شرعي للملك تحتمس الأول. وبصرف النظر عن هذا، فإن الدماء الملكية كانت تنتقل – وفقاً للمعتقدات المصرية القديمة - عبر النساء، فالمرأة هي من تحمل الدم الملكي، وعلى من يرغب في حكم البلاد أن يتزوج من الأميرة. ولهذا كان المتبع أن يتزوج الأمير الكبير من أخته، حتى يصبح حاكماً شرعياً. وعندما توفي زوجها، استلمت هي مقاليد الحكم بشكل مباشر، وكانت وصية في نفس الوقت على الأمير تحتمس الثالث، وهي من ربته تربية عسكرية، ليصبح بعدها أعظم قائد حربي في التاريخ القديم، وربما الحديث أيضاً. كانت سنوات حكم حتشبسوت هي سنوات رخاء وسلام واتساع للمملكة المصرية، ففي خلال 22 عاماً من 1503 ق. م إلى 1482 ق. م كانت خطوات مصر نحو الإمبراطورية العظيمة قد اتضحت معالمها، فامتدت شمالاً وجنوباً، ودعمها في ذلك جيش قوي، كما أقامت علاقات تجارية كبيرة مع جيرانها، خاصة رحلتها الشهيرة إلى بلاد بنط. ظلت وفاة حتشبسوت لغزاً حتى وقت قريب جداً، وكان يعتقد أن تحتمس الثالث قتلها ليتولى الحكم، وأنه منع تحنيطها – وهو أمر عظيم في العقيدة المصرية - فلم يعثر على موميائها في مقبرتها بمعبدها الجنائزي العظيم بالدير البحري غرب الأقصر، إلا أنه بعد اكتشاف موميائها مؤخراً، ثبت أن هذا الكلام غير حقيقي. واتضح أن الملكة ماتت متأثرة بمرض، يرجح أنه السرطان، أو السكريّ. وفي كل الأحوال فإن الملكة العظيمة قد حفرت اسمها بحروف من ذهب في تاريخ مصر الطويل جداً. الملكة كليوباترا هي كليوباترا السابعة، آخر ملوك البطالمة اليونانيين في مصر، كانت قصة حياتها الملحمية، مادة عظيمة لكتاب الدراما، منذ شكسبير الذي ألف مسرحية عنها هي أنطونيو وكليوباترا، مروراً بمسرحية جون درايدن "كل شيء من أجل الحب"، ومسرحية برنارد شو "قيصر وكليوباترا"، وحتى أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي منحها أيضاً واحدة من مسرحياته الشعرية وهي "مصرع كليوباترا"، ثم تلقفها الفن الدرامي الحديث، فقدمت عنها أفلام ومسلسلات، لعل أشهرها فيلم كليوباترا 1963، والذي قامت بدور البطولة فيه النجمة العالمية إليزابيث تايلور، مع ريكس هاريسون وريتشارد برتون، كذلك المسلسل الذي قدمته النجمة العربية سلاف فواخرجي من إخراج وائل رمضان في 2010، ومازال العرض مستمراً، حيث تسعى أنجلينا جولي لتقديم نفس الدور عن الملكة المليئة بالأسرار. أما عن قصة علاقاتها بأباطرة روما، فقد أصبحت غنية عن التعريف، ولكن من باب التذكير، فهي ارتبطت بيوليوس قيصر الذي ساعدها على تولي الحكم بمفردها تحت رعايته، ثم ارتبطت بعد وفاته بأحد قادته وهو ماركوس أنطونيوس أو "مارك أنطوني"، ليحاربا معاً معركتهما العظيمة ضد أوكتافيوس "أغسطس"، والتي خسراها في أكتيوم 30 ق. م، ثم انتحر الاثنان لتقع مصر تحت الاحتلال الروماني لأكثر من 650 عاماً. السلطانة شجر الدر نعم، هذا هو الاسم الصحيح لها، وليس شجرة الدر كما اعتدنا أن نقولها، زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب، آخر ملوك الدولة الأيوبية في مصر، وتعتبر هي بداية عصر المماليك. كان موقفها العظيم أثناء الحملة الصليبية على مصر، من أعظم المواقف في التاريخ، فقد أخفت خبر وفاة زوجها أثناء المعركة، حتى لا يؤثر ذلك بالسلب على الجنود، وأدارت هي المعركة بكفاءة عالية، بعدما أمرت الأطباء أن يستمروا في الدخول لمخدع زوجها في نفس المواعيد، وحرصت على أن تُدخل هي الطعام لغرفته أيضاً بشكل منتظم، وأن تُصدر الأوامر والفرمانات مختومة بختم الملك، حتى انتصر المصريون على الفرنجة، وأسروا لويس التاسع نفسه في دار ابن لقمان بمدينة المنصورة عام 1250 م. وأرسلت في طلب توران شاه ابن الصالح أيوب ليأتي من "حصن كيفا" المدينة التركية، ويتولى مقاليد الحكم، إلا أن الفتى لم يبدُ أنه أدرك قيمة ما قامت به زوجة أبيه، بل وأنها حافظت على الملك من أجله، فأساء معاملتها، وحاول إعادتها إلى الحريم، كما أساء التعامل مع المماليك، الذين هم من قادوا الحرب ضد الفرنجة، فتصالحت المصالح بين شجر الدر والمماليك على التخلص منه، وتولت هي الحكم بشكل شبه رسمي، وبدعم شعبي وعسكري، لما يقارب الثلاثة أشهر (80 يوماً بشكل أكثر دقة). لكن الخليفة العباسي المستعصم، اعترض على توليها الحكم، وأرسل رسالة يقول فيها: " إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً"، فاضطرت الملكة لاختيار زوج، كان هو الأمير المملوكي عز الدين أيبك، الذي أصبح السلطان المعز بعد ذلك. ثم بدأت تظهر مؤامرات هذا العصر الشهيرة، فأساء أيبك معاملتها، وعاد لزوجته القديمة أم ابنه "علي"، فتآمرت عليه شجر الدر وتخلصت منه، ولكنها لم تفلت بهذا، حيث استطاعت زوجة أيبك "أم علي" في أن تحبسها في قصرها، وأمرت خادماتها بضربها بالقباقيب على رأسها حتى ماتت، وألقيت جثتها من أعلى القلعة، ومنعت أي شخص من أن ينقلها بعيدأ، ووزعت حلوى من اللبن والخبز الناشف والسكر ابتهاجاً بموت الملكة العظيمة، وسميت هذه الحلوى " أم علي" ومازال المصريون يأكلونها حتى الآن، برغم دمويتها. هؤلاء لسن كل ملكات مصر، ولكنهن مجرد نماذج مهمة ومشرفة في التاريخ المصري شديد الطول والعظمة، ولم تتوقف مصر البهية عن إنجاب بنات قادرات على تغيير مجرى التاريخ، وصنع الأحداث وليس مجرد مشاهدتها من بعيد، فتحية لكل سيدة مصرية وقفت يوماً لتؤكد على حقوقها الإنسانية، التي حصلت عليها منذ فجر التاريخ، وسلبت منها في غفلة من الزمان.