مصر في كان ... قصة عشق عمرها 66 عاماً

إعداد: أريج عراق لا شك أن قصة الولع المصري الفرنسي المتبادل قد باتت قصة شهيرة على مستوى العالم، فمنذ أن وطئت أقدام الفرنسيين مصر مع حملتهم العسكرية عام 1798م، بدأت هذه القصة، فالغزاة "الفرنسيس" كما كان يطلق عليهم، فوجئوا بحضارة مذهلة في أرض الصحراء لم يتخيلوها في أكثر أحلامهم جموحاً، والمصريون الذين رضخوا قروناً تحت حكم أجنبي متنوع أخّرهم عن ملاحقة العالم، وجدوا في هؤلاء الغزاة –الذين قاوموهم بشدة- عالماً آخر يتطلعون إليه، ويشعرون أنهم يملكون الحق في مكان فيه برغم عوائق الزمن الظالمة. وصارت فرنسا هي بوابة الحرية والتقدم لكل مصري حالم، وأصبحت مصر ولعاً وهوساً فرنسياً يزداد يوماً بعد يوم مع اكتشاف أسرار الحضارة المصرية العظيمة، ما جعل الطرفين يحافظان على هذه العلاقة الخاصة لما يزيد عن قرنين من الزمان حتى الآن، وزادت ثقة المصريين بأن فرنسا هي بوابة العالم الحر مع البعثات التي أرسلها محمد علي باشا إلى هناك لتعليم المصريين ونقل الحضارة الغربية إلى مصر، أما السينما فلها حديث آخر ذو شغف خاص. البدايات المتقاربة بدأت مصر علاقتها بالسينما في نفس التوقيت مع العالم، ما يجعلها واحدة من أقدم الدول في اقتحام هذا المجال، فقد كان العرض السينمائي الأول عالمياً في باريس ديسمبر 1895 بفيلم صامت للأخوين "لوميير" في الصالون الهندي بالجراند كافيه في شارع كابوسين، وبعدها بأيام قُدم أول عرض في مصر في يناير 1896 في مقهى "زواني" بالإسكندرية، وتلاه عرض آخر في القاهرة في 28 يناير من نفس العام، ثم عرض ثالث في مدينة بور سعيد عام 1898، لتنطلق مصر إلى عالم السينما بعدها وتصبح واحدة من أقدم دول العالم اقتحاماً لهذا المجال الجديد، وتسبق دولاً صارت كبرى بعد ذلك مثل الولايات المتحدة والهند وغيرها. المشاركة من أول يوم بدأت الإرهاصات الأولى لتأسيس مهرجان كان عام 1939 وتحديداً في أول سبتمبر، ولم تستمر هذه الدورة المبتورة لأكثر من يومين، حيث امتدت معارك الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا، ما أدى إلى وقف الدورة وتعليقها إلى أجل غير مسمى، ولم يمكن انعقادها مرة أخرى إلا عندما وضعت الحب أوزارها فبدأت الدورة الأولى رسمياً في مايو 1946. وكان لمصر نصيب من المشاركة بها، حيث قدم الرائد الكبير محمد كريم فيلمه "دنيا" الذي قام بإخراجه وكتابة السيناريو له، وقام ببطولته دولت أبيض وسليمان بك نجيب وراقية إبراهيم وأحمد سالم. وفي نفس العام تم اختيار الفنان الكبير يوسف بك وهبي ليكون ضمن لجنة التحكيم، وفي عام 1949 اشتركت مصر بفيلمين وكانا ضمن المسابقة الرسمية مثل سابقهما (لم يكن هناك أقسام أخرى سوى المسابقة الرسمية وخارج المسابقة الرسمية والأفلام القصيرة) وكان الفيلمان هما "البيت الكبير" من إخراج رائد آخر هو أحمد كامل مرسي (يؤكد المعلومة الناقد الكبير سمير فريد برغم أن الفيلم غير مذكور على الموقع الرسمي للمهرجان في أي قسم) أما الفيلم الثاني فكان "مغامرات عنتر وعبلة" من إخراج المخرج الشاب وقتها صلاح أبو سيف، وبطولة كوكا وسراج منير. يلاحظ أن المهرجان توقف عامي 1948 و1950 لأسباب مالية، ولم يتوقف بعدها إلا في دورة 1968 لأسباب سياسية. في عام 1952 شاركت مصر بفيلمين أيضاً هما "ليلة غرام" إخراج أحمد بدرخان، و"ابن النيل" ليوسف شاهين، الذي كان بداية العلاقة الأبدية بين شاهين والمهرجان والتي لم تنته إلا بوفاته عام 2008، كتب شاهين السيناريو والحوار للفيلم بمشاركة فتوح نشاطي، وقام ببطولته شكري سرحان وفاتن حمامة ويحيى شاهين، ليبدأ معه فصلاً جديداً من علاقة مصر بهذا المهرجان، وبداية تبلور مدرسة الواقعية المصرية. شاهين في كان احتفظ يوسف شاهين بعلاقة خاصة بمهرجان كان طوال عمره السينمائي، فبعد أن اكتشف أن الأبواب الأميركية تكاد تكون مغلقة في وجهه –كما اعترف بنفسه في الأفلام التي تتناول سيرته الذاتية- ألقى بكامل ثقله على الود الفرنسي القديم. وفي المقابل احتفت فرنسا بشاهين، واقترن اسمه بمهرجان كان، ولا عجب في ذلك فهو المخرج صاحب العدد الأوفر من الأفلام المصرية في المهرجان، بل إنه كانت هناك فترة ليست بالقصيرة، لم يكن يشارك فيها إلا هو، ليصبح شاهين سفيراً رسمياً للسينما المصرية بالخارج عموماً وكان خصوصاً. فبعد "ابن النيل"، شارك شاهين عام 1954 بفيلم "صراع في الوادي" بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، ثم احتجب عن المشاركة لفترة طويلة كانت مليئة بالأحداث السياسية، منها مقاطعة مصر للمهرجان في الفترة من 1956 حتى 1964 بسب العلاقات المتوترة بين مصر وفرنسا، وأيضاً خروج شاهين نفسه من مصر لعدة سنوات، إلا أنه عاد عوداً حميداً عام 1970 بتحفته الخالدة "الأرض" الذي يعد واحدا من أهم وأجمل أفلام السينما المصرية طوال تاريخها، ثم كانت السبعينات وحتى منتصف الثمانينات التي شهدت غيابا تاما للسينما المصرية في كان باستثناء فيلم شاهين "العصفور" عام 1973 (طبقاً لسمير فريد) والذي عرض ضمن "نصف شهر المخرجين، ثم أعاد العلاقات مرة أخرى بفيلم "الوداع يا بونابرت" 1958 والذي كان إنتاجاً مصرياً فرنسياً مشتركاً، شاركه في ذلك كل أفلام شاهين التالية، بعده عُرض "اليوم السادس" 1987 و"اسكندرية كمان وكمان" 1990 وكان أيضاً ضمن قسم "نصف شهر المخرجين"، أما "الآخر" 1999، و"اسكندرية نيويورك" 2004، فكانا ضمن قسم "نظرة خاصة"، أما عام 1997 فقد حصل شاهين على جائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان والتي تمنح مرة واحدة فقط (كما قال هو نفسه) بمناسبة عرض فيلم "المصير"، وكانت 2004 هي نهاية العلاقة العميقة بين المخرج والمهرجان، حيث لم يخرج شاهين بعدها إلا فيلماً واحداً هو "هي فوضى" 2007، وتوفّي في 15 يونيو 2008، تاركاً ميراثاً فنياً عظيماً، وكثيراً من الحسرة لكل عشاق الفن السابع. الواقعية المصرية إلا أنه ليس من الإنصاف أن نقصر تاريخ السينما المصرية العظيم على شخص يوسف شاهين مهما كانت قيمته، فمصر التي أنجبت شاهين، أنجبت الكثير غيره من الفنانين العظماء، وبالعودة لعام 1954، نجد أن المخرج الكبير صلاح أبو سيف قد شارك في هذه الدورة بفيلم "الوحش" بطولة محمود المليجي وأنور وجدي وسامية جمال، وفي عام 1955 شارك المخرج الكبير أيضاً كمال الشيخ، بثاني أعماله السينمائية، وهو فيلم "حياة أو موت" والذي يعد أحد علامات السينما المصرية أيضاً، ثم عاد صلاح أبو سيف للمشاركة في العام التالي 1956 بتحفة أخرى هي "شباب امرأة" بطولة تحية كاريوكا وشكري سرحان وشادية. والمتابع المدقق لهذه الأفلام يمكنه أن يصل بسهولة إلى أنها جميعاً كانت تعبر عن تبلور مدرسة الواقعية المصرية، التي مثّل المخرجون الثلاثة –تحديداً- أهم روادها من بعد كمال سليم صاحب فيلم "العزيمة" عام 1939، والذي لم يستمر كثيراً في المجال، ما يجعل البعض يعتقد أن فيلمه المهم، لم يكن أكثر من صدفة، إلا أن من حملوا الراية أثبتوا مراراً وتكراراً أنهم أهل لهذه المهمة، في عام 1964 كسر كمال الشيخ حالة القطيعة المصرية الفرنسية بفيلمه المهم "الليلة الأخيرة" بطولة فاتن حمامة ومحمود مرسي وأحمد مظهر، وتلاه هنري بركات في عام 1965 بفيلم "الحرام" قصة يوسف إدريس وبطولة فاتن حمامة وعبد الله غيث وزكي رستم. وبعد فترة أخرى طويلة من الانقطاع لأسباب سياسية واجتماعية وفنية، تخلفت السينما المصرية كثيراً عن اللحاق بركب التطور الفني العالمي، ولم يستثن منها إلا شاهين، ظهرت أسماء جديدة تحاول حجز مكان لها في صناعة عريقة لا تيأس، فقدم محمد خان فيلم "عودة مواطن" عام 1987 والذي عرض في قسم "نظرة خاصة"، كذلك قدم عاطف الطيب فيلمه "الحب فوق هضبة الهرم عام 1985 في "نصف شهر المخرجين"، و"سرقات صيفية" ليسري نصر الله –تلميذ يوسف شاهين والذي يراه الكثيرون خليفته- عام 1988. الألفية الجديدة لم تستطع الألفية الجديدة والقرن السينمائي الثاني، أن تكون فاتحة خير كبيرة على السينما المصرية، التي مازالت تحارب أشباحاً خرافية لتثبت مكانتها بعد أكثر من قرن من الزمان، فجاءت مشاركة مصر باهتة واهية، وأقرب للمحاولات الأولى، فشاركت المخرجة تهاني راشد –كأول مخرجة مصرية تقتحم المهرجان- بفيلم "البنات دول" عام 2006، وشارك يسري نصر الله بفيلم "بعد الموقعة" عام 2012. أما عام 2011 فكان عاماً مميزاً جسد حقيقة العلاقة المصرية الفرنسية، فقررت إدارة المهرجان إضافة قسم خاص لأول مرة لضيف شرف سنوي، وكان الضيف الأول هو مصر، تكريماً للثورة المصرية التي أبهرت العالم في ذلك الوقت، وعرض على شرف مصر فيلم "18 يوم" الذي هو في الحقيقة عبارة عن عشرة أفلام لعشرة مخرجين، تتناول –من وجهة نظر كل مخرج- رؤيته لأيام الثورة المصرية الثماني عشر ، وهذه الأفلام هي: "احتباس" لشريف عرفة، "داخلي / خارجي" ليسرى نصرالله، "تحرير 2 - 2" لمريم أبوعوف، "19- 19" لمروان حامد، "لما يجي كالطوفان" لمحمد علي، "خلقة ربنا" لكاملة أبوذكري، "حظر تجول" لشريف البنداري، "كعك التحرير" لخالد مرعي، "شباك" لأحمد عبدالله، "حلاق الثورة" لأحمد علاء، كذلك عُرض فيلم "البوسطجي" إخراج حسين كمال عن قصة يحيى حقي وإنتاج عام 1968 ضمن عروض الأفلام الكلاسيكية، ولا يمكن تجاهل ما تمثله هذه العروض من إشارة إلى أن مصر مازالت "ولّاّدة"، وقادرة على تخطي كل المحن والصعاب، لتعود وتتألق مرة أخرى أمام بوابة الحرية، وعلى أعتاب سجادتها الحمراء.