من سماء الخيال إلى أرض الواقع..هل دراما المراهقين تُحَرضهم على الانتحار؟

ذهب الشاب "روميو" من عائلة "منتيجيو" إلى لقاء حبيبته "روزالين" في حفل بقصر عائلة "كابوليت"، وهى العائلة التى تناصب عائلة "منتيجيو" العداء والكراهية، وهناك قابل المراهقة الجميلة "جولييت"، ووقع في غرامها، وحسبما أخبرنا "ويليام شكسبير" في مسرحيته الشهيرة، لم يتجاوز عمر "جولييت" 14 عاماً، وهذا ربما يبرر رقة وهشاشة مشاعرها، وإقدامها على الانتحار بطعن نفسها، إثر تناول حبيبها السم؛ وقد خلد "شكسبير" قصة الحب المأساوية، ووصف كيف انتحر الحبيبان، ولم يتهمه معاصروه بتحريض الصغار على الانتحار، أو انتهاك كود تمثيل مشاهد الانتحار على خشبة المسرح، كما حدث مع شبكة "نتفليكس"، التى اضطرت مؤخرا إلى حذف مشهد انتحار شخصية "هانا بيكر"، من مشاهد مسلسل 13 Reasons Why ـ "13 سبباً لماذا"، وذلك بعد مرور عامين على العرض الأول للمسلسل.

هل دراما المراهقين تُحَرضهم على الانتحار؟

الانتحار في السينما العربية

رغم أن حوادث الانتحار جزء من الواقع اليومي، لكن السينما العربية لا تراه موضوعاً يستحق عملاً درامياً كاملاً، وتعاملت سيناريوهات الأفلام مع الشخصية الانتحارية بسطحية، وفكرة الإنتحار نفسها لا تحظى بتحليل عميق لأعراضها وأسبابها، وأغلب دراما انتحار المراهقين والشباب في الحقبة الكلاسيكية بالسينما المصرية استلهمت بصورة أو أخرى قصة انتحار "روميو وجولييت"، وارتبط الانتحار في بعض الأعمال بصغر سن المُنتحر؛ فنرى في فيلم "المراهقات" محاولات التلميذة "ندى-ماجدة" المتكررة للانتحار بعد رفض عائلتها المتزمتة زواجها من حبيبها "رشدي أباظة"، وصورت السينما المصرية الانتحار فى أحيان أخرى على أنه عقاب على خطيئة لا تُغتفر، كما رأينا في فيلم "العار"، حينما ينتحر الضابط "حسين فهمي" بعد ضياع ثروة عائلته من المخدرات، وفي فيلم "زوجة رجل مهم" ينتحر الضابط "أحمد زكي" بعد عزله منصبه، وفقدان نفوذه وهيبته واتزانه، ويدفع "حسنين-عمر الشريف" شقيقته "نفيسة-سناء جميل" بالانتحار؛ للخلاص من فضيحتها الأخلاقية في فيلم "بداية ونهاية".

فيلم "العار"

القتل الرحيم وأشياء أخرى

على عكس تقديم السينما العربية فكرة الانتحار على استحياء، وبتحيز مُسبق ضد شخصية المُنتحر، تُوسع السينما العالمية المجال لتقديم أفلام عن الانتحار كأزمة إنسانية، وتُناقش الأسباب التي دفعت شخصية ما إلى الإنتحار، وكيف يمكن أن يكون المرض والحب والتنمر والفقر من دوافع الإقدام على الانتحار؛ فيبحث فيلم The Virgin Suicides "العذراء تنتحر" سر انتحار مجموعة من الشقيقات المراهقات، ويطلب بطل فيلم Me Before You ـ "أنا قبلك" من حبيبته وعائلته مساعدته على الانتحار في مستشفي مخصص للقتل الرحيم، بعد إصابته بالشلل، وتتعرض هوليوود كثيراً لفكرة القتل الرحيم، وهذا جزء من جدل اجتماعي في الغرب، وقد روت أفلام أخرى حوادث انتحار من وحي الواقع، منها فيلم Christine "كريستين"، الذي تناول الأحداث التى سبقت إقدام المذيعة الأمريكية "كريستين شاباك" على الانتحار بإطلاق النار على رأسها أثناء البث المباشر، بعد قراءتها مقدمة برنامجها الإخبارى، وأيضاً فيلم الدراما النفسية The Hours "الساعات"، الذى يرصد معاناة الكاتبة "فرجينيا وولف-نيكول كيدمان" من الاكتئاب والخلل العقلي أثناء كتابتها واحدة من روايتها؛ مما يدفعها للانتحار.

تهمة التحريض الدرامي

يتهم البعض الدراما بالتحريض على الانتحار؛ بتصوير قتل النفس على أنه موقفاً ثورياً احتجاجياً شاعرياً ضد ظلم المجتمع وبؤس الواقع، ومثل هذا الاتهام له مبرراته، ولكن أغلبها سطحي، فالتعاطف الدرامي مع تفاصيل حياة ومشاعر من يقرر الانتحار، لا يعني بالضرورة الترويج للفكرة، وأسلوب تحليل الشخصية التى قررت الانتحار، والتعاطف مع آلامها، وتفهم دوافعها الشخصية، لا يجب أن يضع الدراما في خانة التحريض وتزيين الفعل نفسه، ومثل هذا الاتهام يتكرر في حالات درامية أخرى مختلفة، مثل تقديم شخصية البلطجي بصورة لطيفة، أو رسم شخصية رجل عصابات بصورة جذابة، ويغفل هذا الرأي حقيقة الفن، وهى أنه صورة خيالية من الواقع، وليس توثيقاً له، وأن جميع المشاعر الإنسانية موضوعاً مُباحاً للدراما، مهما بلغ تطرفها وغرابتها عن السائد، وأن الإنسان ليس قالب نمطي جامد.

هل دراما المراهقين تُحَرضهم على الانتحار؟

أزمة "هانا بيكر"

كان مشهد انتحار طالبة الثانوي "هانا بيكر" في مسلسل "13 سبباً لماذا" مُروعاً؛ لمدة دقائق ركزت الكاميرا على جلستها القلقة داخل البانيو، ورصدت بكادر متوسط ملامحها المُنهارة، وحالة رثاء الذات التي تعكس لحظة فاصلة في مصيرها، لحظة النهاية التي اختارتها لحياتها، والثواني الأخيرة لها في العالم المادي الزائل، وبعد تردد تبدأ في قطع شرايين يدها، وتسيل دمائها ممتزجة بمياه البانيو، وكانت رسالة انتحارها صادمة لجميع من حولها؛ فقد سجلت 13 رسالة صوتية على شرائط كاسيت، كل منها مُوجه لشخص عرفته وخذلها، وكان سبباً في قرارها بالانتحار. لم تكن أسبابها عاطفية تماماً، كما حدث في حكاية "روميو وجولييت"، وكان التنمر المدرسي، والاغتصاب، والإهمال العاطفي، من بين أمور كثيرة سردتها "هانا" عن حياتها القصيرة المُعقدة للغاية. رغم كل العنف الذي تحتويه الدراما الهوليوودية رأى بعض أخصائيي الطب النفسي المشهد قاسياً على المشاهدين من صِغَار السن.

هل دراما المراهقين تُحَرضهم على الانتحار؟

يبقى الجدل المجتمعي مشتعلاً، والأسئلة كثيرة وبلا إجابات مُحددة: هل الإنتحار مرض نفسى؟ هل التعاطف مع المُنتحر يُشجع أخرين على الانتحار؟ وراء كل مُنتحر حكايات ومواقف دفعته لهذا المصير، وربما يأتي يوماً وتدرك الدراما العربية أهمية التعامل مع مثل هذه الحكايات، مهما بدت مؤلمة وشائكة.