العقل اللاواعي: حوار لـ"هي" مع "مارغو رستميان" حول الجذور الخفية للمشاعر والقيود الداخلية
في لحظات معيّنة، نفاجأ بأنفسنا. نغضب دون سبب واضح، نتراجع أمام فرصة نعرف أننا نستحقها، أو نعود إلى مخاوف ظنّنا أننا تجاوزناها منذ زمن. كأن قوة خفية تقودنا من الداخل، تُقرّر قبل أن نُفكّر، وتعيدنا إلى السيناريوهات ذاتها مهما حاولنا الهروب. تلك القوة الصامتة هي العقل اللاواعي، المساحة التي تتشكّل فيها أنماطنا العاطفية الأولى، وتُخزَّن فيها مخاوفنا، وتُبنى القيود التي نسمّيها لاحقًا "طبعًا" أو "نصيبًا".
في هذا الحوار مع "مارغو رستميان" Margo Rustamyan، المعالجة المعتمدة في التنويم الإيحائي وخبيرة إعادة برمجة العقل الباطن، التي تحمل أكثر من 15 عامًا من الخبرة في التحرر العاطفي ومواءمة الطاقة، لا نسأل عن المشاعر بقدر ما نسأل عن أصولها. نذهب إلى الطبقة التي لا تُرى، حيث تُصنع ردود أفعالنا الأولى، وتُحفر مخاوف الطفولة، وتتشكل القيود التي نُطلق عليها لاحقًا "طبع" أو "قدر". هناك، في عمق العقل الباطن، تقول "مارغو" إن كل خوف له بداية، وكل نمط له ذاكرة، وكل عائق داخلي ما هو إلا قصة لم تُروَ بعد.
تأخذنا "ماغو" في هذا اللقاء إلى ما وراء السلوك… إلى البذرة الأولى التي شكّلته. وفي هذا الإطار تلفت الى أن" العقل اللاواعي هو أهدأ أجزاء الإنسان وأكثرها تأثيرًا. نادرًا ما ندرك أنه يحدّد من نحب، ومن ننجذب إليه، وما القرارات التي نتخذها، ولماذا نجد أنفسنا أحيانًا نعود إلى نفس المواقف التي هربنا منها سابقًا. قد نعد أنفسنا قائلين: "لن أعود لذلك مجددًا"، ومع ذلك تدفعنا قوة داخلية نحو الأنماط ذاتها. هذا ليس ضعفًا، بل هو برمجة العقل اللاواعي، التي نشأت في الفترات التي لم نكن فيها قادرين على تفسير العالم أو حماية أنفسنا، لكننا كنا قد امتصصنا بالفعل المناخ العاطفي المحيط بنا".
وتضيف: "تتشكل أنماطنا العاطفية الأولى في مراحل الطفولة المبكرة، حين يكون العقل الواعي غير مكتمل، ويعمل الدماغ في حالة ثيتا، وهي حالة تشبه الغيبوبة الخفيفة. في هذه الحالة لا يحلل الطفل، بل يمتصّ. تعابير وجه الوالدين، التوتر في المنزل، المشاعر المسموح بها والممنوعة، نبرة الصوت الموجّهة إليه… كل هذا يتحوّل إلى “قانون داخلي”. فإذا تكررت عبارات مثل: "لا تزعجني"، "كن قويًا"، "لا تبكِ"، "أنت لا تستطيع"، "أنت غبي"، فإنها تصبح قوانين راسخة. وترافق الإنسان لعقود، محرّكة ردود فعل لا تصدر من نضجه الحالي، بل من جروح طفولته غير الملتئمة".
وتعتبر "مارغو" "المشاعر التي لم يُسمح لها بالخروج في الطفولة تتحوّل في الكبر إلى أنماط ثابتة: الخوف من الرفض، كبت المشاعر، الحاجة للسيطرة، تحمّل المسؤولية الزائدة، والرغبة المستمرة في إثبات الذات. وإذا حدثت صدمة واحدة قوية — إهانة، سخرية، نقد قاسٍ، أو خيانة — فإن العقل اللاواعي يطبعها كصدمة عاطفية. ثم يبني حولها نظام حماية يستمر في تشكيل السلوك والاختيارات والحدود لسنوات طويلة. الأفكار تولّد مشاعر، والمشاعر تستقر في الجسد، والجسد يصبح أرشيف اللاواعي".
وتتابع: "الخوف هو أقوى المشاعر السلبية. وإذا بقي لفترة طويلة في الداخل، فإنه لا يصنع حواجز عاطفية فحسب، بل قد يظهر جسديًا كأمراض نفسجسدية. يتراكم الخوف طبقات: قلق، شكّ بالنفس، تجنّب، ذنب، تفكير زائد... حتى يصبح حاجزًا داخليًا معقدًا. أحيانًا يكون الخوف من الوحدة، أو من الخطأ، أو من فقدان السيطرة. لكن الجذر دائمًا واحد: الشعور كان أقوى من قدرة الشخص على معالجته".
وتشدد "مارغو" على أنه "من المهم أن ندرك أن المخاوف ليست دائمًا شخصية. فنحن نحمل الرموز العاطفية لوالدينا وحتى لأسلاف منسيين. تجارب الأجيال — من حروب، وفقد، وهجرة، وحرمان — تنتقل إلينا ليس فقط كقصص، بل كذاكرة عاطفية. إنه آلية بقاء بيولوجية قديمة. يتلقى لاوعي الأحفاد الذاكرة الشعورية للسلالة كي يكونوا “مستعدين” للتهديدات المحتملة. لهذا قد يخاف الإنسان مما لم يختبره يومًا. إنه يحمل ألمًا غير محلول من جذوره".
وتقول: "القيود الداخلية هي آليات حماية يبنيها العقل اللاواعي ليُبعد الإنسان عن أي خطر عاطفي محتمل. ويشارك العقل الواعي في ذلك أيضًا؛ فهو يحلّل ويحاول السيطرة ويقدّم تبريرات منطقية. لكن عندما تكون المشاعر أقوى من قدرته، يستنزف اللاواعي طاقة هائلة لقمع الألم. وهنا تظهر “الضبابية الداخلية”: لا مبالاة، تسويف، خدر عاطفي، فقدان الحس، والشعور بأن الحياة لا تشبه الإنسان نفسه. قد يرغب الشخص في التغيير، لكن الجسد لا يتحرك.
كل إنسان يبني أدوارًا ليحمي نفسه عاطفيًا. أدوار ساعدته يومًا على النجاة، ثم تحولت لاحقًا إلى جدران تفصله عن رغباته الحقيقية. وعندما يرهق الجسد من المشاعر المكبوتة، يتوقف اللاواعي عن السماح بالاتصال العميق والحضور والصدق. لا يعود الشخص يشعر بالألم… بل يشعر بالفراغ. والفراغ دائمًا رسالة بأن اللاواعي مثقل بالأعباء العاطفية.
تبدأ التحوّلات في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أنماطه. الوعي هو الرافعة الأولى للتغيير. عندما يرى الإنسان “نصّه الداخلي”، يبدأ في الاختيار.
المرحلة التالية هي تحرير الذاكرة العاطفية من الجسد. فالمشاعر لا تغادر إلا بالتجسيد: عبر التنفّس، الدموع، الارتجاف، التثاؤب، الدفء… أيًا كانت الطريقة التي يختارها الجسد. لكن هذا يحدث فقط حين يكون الإنسان صادقًا مع نفسه، يعترف بضعفه، ويتوقف عن الهروب من حقيقته. تظهر الدراسات أن المشاعر المكبوتة لا تغادر الجسد إلا بعد الاعتراف بها—فكريًا أولًا، ثم عاطفيًا، ثم جسديًا.
وبعد التحرير، تظهر طاقة جديدة ومساحة جديدة. ويشعر الإنسان وكأنه وُلد من جديد. لكن هذا “إعادة التشغيل” ليس حدثًا واحدًا. فالعقل يحتاج إلى “نظافة” منتظمة، كما يحتاج الوجه إلى غسل صباحي. يجب تنظيفه من الضوضاء والضغط العاطفي والتحفيز الزائد. الصمت، التأمل، تمارين التنفس، العزلة، النوم، وتركيز الانتباه… جميعها تساعد الدماغ على معالجة المشاعر بدلًا من قمعها.
وعندما يبدأ الإنسان في العيش بصدق، والتحدث بوضوح، ووضع حدود صحية، يعيد الدماغ رسم خريطته. يصبح ما كان مخيفًا أمرًا طبيعيًا.
وفي النهاية، يتوقف العقل اللاواعي عن كونه ظلًا. لم يعد يسحب الإنسان إلى الماضي، بل يصبح قوة تدفعه إلى الأمام. تتوقف الحياة عن تكرار القصص القديمة، وتتحول إلى عملية خلق. ينتقل الإنسان من وضع “النجاة” إلى حالة “الخلق الواعي”، حيث تظهر التزامنات، والفرص الجديدة، والوضوح، واللقاءات ذات المعنى بشكل طبيعي. فعندما يشفى العالم الداخلي، يتناغم العالم الخارجي مع إيقاعه الجديد.