في اليوم العالمي للتوعية بالصحة النفسية.. المعالج النفسي ميشيل سلامة لـ"هي": الرعاية الذاتية قوة وليست رفاهية
في اليوم العالمي للتوعية بالصحة النفسية، تفتح مجلة "هي" حوارًا مع المعالج النفسي ميشيل سلامة، من Human Relations Institute and Clinics (HRIC) في دبي، حول المعنى الحقيقي للعلاج النفسي وأهميته في حياة المرأة اليومية. من خلال هذا الحديث، نسلّط الضوء على كيفية تحوّل النظرة إلى الصحة النفسية بعد جائحة "كورونا"، وما الذي يجعل العلاج النفسي خطوة استباقية للنمو والتمكين، وليس مجرّد حل للأزمات. الحوار يكشف كيف يمكن للرعاية الذاتية أن تتحول من شعور بالذنب إلى مصدر قوة، وكيف يجد الإنسان في رحلة العلاج مساحة آمنة لفهم ذاته، إعادة ترتيب أولوياته، وبناء وضوح داخلي يمنحه التوازن والطمأنينة.
كثيرون مازالون يربطون العلاج النفسي باضطرابات نفسية حادة. من واقع خبرتك، ما هو جوهر العلاج النفسي فعلًا؟ وكيف يمكن أن يدعم المرأة في حياتها اليومية حتى في غياب الأزمات؟
كثيرون يظنون أن العلاج النفسي مخصّص فقط لمن يواجهون اضطرابات نفسية حادّة، بينما في الحقيقة هو أوسع بكثير من ذلك. فالعلاج النفسي مساحة آمنة للحوار والتفكير والتعمّق في فهم الذات. وهو فرصة لترتيب الأفكار واكتشاف طرق عملية للتعامل مع التحديات اليومية.
المرأة على وجه الخصوص غالبًا ما تتحمّل أدوارًا متعدّدة في وقت واحد. ففي العمل قد تكون موظفة أو قائدة أو تسعى لإثبات ذاتها، وفي البيت هي أم أو شريكة أو ابنة أو مقدّمة رعاية. وكل دور يفرض متطلبات مختلفة قد تتعارض أحيانًا، مما يخلق ضغوطًا وإرهاقًا، أو شعورًا بالتقصير في تلبية جميع هذه الأدوار.
العلاج النفسي يساعد المرأة على إيجاد توازن بين هذه الأدوار، ويمنحها أدوات عملية لوضع حدود صحية والاعتناء بنفسها من دون شعور بالذنب. كما يساهم في تعزيز الثقة بالنفس وتحسين التواصل والتعامل مع الضغوط اليومية بمرونة ووعي أكبر.
العلاج النفسي لا يقتصر على مواجهة المشاكل، بل هو رحلة للنمو والوضوح والتمكين. وهو استثمار في الذات، لأن المرأة تستحق أن تعيش حياتها اليومية براحة وتوازن، حتى من دون وجود أزمة حادّة.
بالنسبة للمرأة التي تحاول الموازنة بين العمل، العائلة، والنمو الشخصي، ما هي الأسباب اليومية التي تجعلها تستفيد من العلاج النفسي أو التوجيه (Coaching)؟
في حياتها اليومية، تعيش المرأة غالبًا بين أدوار متشابكة؛ فهي تسعى للنجاح في عملها، وفي الوقت نفسه تتحمّل مسؤوليات داخل الأسرة، كما تحاول إيجاد مساحة لنفسها ولرحلة نموها الشخصي. هذا التداخل قد يخلق ضغوطًا متكررة تجعل من الصعب الحفاظ على التوازن، حتى وإن لم تكن هناك أزمة واضحة.
العلاج النفسي أو التوجيه يقدمان مساحة آمنة تساعد المرأة على التوقف قليلًا والتأمل في احتياجاتها بعيدًا عن الضغوط. ومن خلال الحديث وإعادة ترتيب الأفكار، تستطيع أن تجد طرقًا أكثر صحة للتعامل مع التوتر، وأن تتعلم وضع حدود واضحة بين العمل والحياة الخاصة، وأن تعزّز ثقتها بنفسها بعيدًا عن المقارنات والشعور بالتقصير. كما يمكن لهذه العملية أن تدعمها في تحسين علاقاتها سواء في العمل أو مع العائلة، عبر أساليب تواصل أكثر وضوحًا وهدوءًا.
الاستعانة بالعلاج أو التوجيه خطوة استباقية تمكّن المرأة من عيش حياتها اليومية بوعي أكبر وراحة وانسجام بين أدوارها المختلفة.
هل ترى فرقًا بين أسلوب النساء والرجال في الإقبال على العلاج النفسي؟ وما الدروس التي يمكن للنساء أن يستفدن منها من هذه الفوارق؟
من خلال التجربة العملية، يمكن ملاحظة بعض الإختلافات بين النساء والرجال في طريقة إقبالهم على العلاج النفسي. فالنساء غالبًا ما يكنّ أكثر استعدادًا للحديث عن مشاعرهن والتعبير عنها مباشرة، مما يمنحهن فرصة أسرع للدخول في صميم الموضوع واستكشاف الجوانب العاطفية بعمق. أما الرجال، ففي كثير من الأحيان يترددون أكثر في البداية، وقد يركّزون على البحث عن حلول عملية وسريعة قبل التعمق في التفاصيل العاطفية. لكن حين يطمئنون إلى أجواء العلاج، يصبحون قادرين على إحداث تغييرات حقيقية في حياتهم.
النساء يمكن أن يستفدن من هذا التباين. فالانفتاح العاطفي قوّة حقيقية، لكنه يصبح أكثر فاعلية حين يُدمج مع نهج عملي يترجم المشاعر إلى خطوات قابلة للتطبيق في الحياة اليومية. فالتوازن بين الإصغاء للمشاعر والعمل على وضع خطط عملية لمواجهتها هو ما يجعل العلاج النفسي رحلة غنية وفعّالة في آن واحد.
كيف ترى تغيّر نظرة الناس للعلاج النفسي بعد جائحة "كورونا"، خصوصًا بين النساء في دبي والمنطقة العربية؟
بعد جائحة "كورونا"، شهدنا تحوّلًا ملحوظًا في نظرة الناس إلى العلاج النفسي، ولا سيما بين النساء في دبي والمنطقة العربية عمومًا. فقد جعلت التجربة الجماعية للعزلة والقلق وعدم اليقين الكثيرين يدركون أن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية.
بالنسبة للنساء، برزت الحاجة إلى مساحة آمنة للتعبير عن الضغوط، سواء في إدارة شؤون المنزل، أو متابعة العمل عن بُعد، أو رعاية الأسرة في ظروف استثنائية. وما تغيّر بعد تلك المرحلة هو أن الحديث عن التوتر والقلق والاكتئاب أصبح أكثر قبولًا وأقل ارتباطًا بالوصمة.
الكثير من النساء أصبحن أكثر جرأة في طلب الدعم، ليس فقط عند مواجهة أزمة كبيرة، بل أيضًا كخطوة للحفاظ على توازنهن النفسي في الحياة اليومية. كما ظهر اهتمام متزايد بالبرامج الوقائية مثل جلسات التوجيه أو المجموعات الداعمة، كوسيلة لبناء المرونة قبل الوصول إلى مرحلة الإنهاك.
هذا التحوّل يعكس وعيًا جديدًا لدى النساء في المنطقة: لم يعد العلاج النفسي يُنظر إليه كحل أخير، بل كاستثمار في الذات وأداة لتعزيز القوة الداخلية والثقة في مواجهة تحديات الحياة.
إلى أي مدى ساهمت جائحة "كورونا" في جعل الحديث عن الصحة النفسية أكثر تقبّلًا في مجتمعاتنا؟ وهل برأيك أفرزت أيضًا تحديات جديدة ما زلنا نواجه آثارها حتى اليوم؟
يمكن القول إن الجائحة أحدثت تحولًا كبيرًا في التعامل مع موضوع الصحة النفسية. فمن جهة، ساعدت على كسر الصمت الذي كان يحيط بهذا المجال، وأصبح الحديث عن القلق والضغوط والتعب النفسي أكثر قبولًا. بالنسبة للنساء، كان هذا التحول بالغ الأهمية، إذ منحن شجاعة أكبر لطلب الدعم ومشاركة تجاربهن دون خوف من الحكم.
لكن في المقابل، خلّفت الجائحة أيضًا تحديات عميقة لم تنته بعد. فالعزلة الطويلة، وضبابية المستقبل، وفقدان الإحساس بالاستقرار تركت آثارًا نفسية ما زالت تظهر بطرق مختلفة. بعض النساء يعانين اليوم من قلق مزمن، أو صعوبة في العودة إلى إيقاع الحياة الطبيعي، أو شعور داخلي بعدم الأمان رغم انحسار الأزمة الصحية.
هذه التحديات قد تكون خفية لكنها حقيقية، وهي تذكّرنا بأن التعافي النفسي يحتاج إلى وقت ورعاية مستمرة.
كأخصائي نفسي ترتكز في عملك على التعاطف وتطبيق استراتيجيات عملية، ما هي بعض الأدوات أو الممارسات البسيطة التي يمكن للمرأة اعتمادها يوميًا للتعامل مع التوتر والقلق أو الإرهاق النفسي؟
المرأة اليوم تتحمّل مسؤوليات متعدّدة تجعلها عرضة للتوتر والإرهاق، لذلك من المهم امتلاك أدوات بسيطة وواقعية تساعدها على استعادة التوازن.
من أبرز هذه الأدوات التوقف لبرهة والوعي بالنفس، أن تمنح نفسها دقائق قصيرة يوميًا للتنفس بعمق والإنصات لمشاعرها، بدلًا من الانغماس التام في المسؤوليات. هذا التوقف يهدّئ الجهاز العصبي ويعيد التركيز.
كذلك، يساعد تنظيم اليوم ووضع حدود واضحة، سواء في العمل أو في الحياة الأسرية، على حماية الطاقة النفسية والجسدية. تعلم قول "لا" عند الحاجة ليس أنانية، بل وسيلة للحفاظ على الاستقرار.
كما أن الاهتمام بالجسد—من خلال نوم جيد، نشاط بدني منتظم، وتغذية متوازنة—ينعكس مباشرة على الصحة النفسية. ولا يقل أهمية عن ذلك التواصل مع الآخرين؛ فمشاركة المشاعر مع صديقة أو فرد من العائلة يخفّف من ثقل الضغوط ويذكّر المرأة بأنها ليست وحدها.
هذه الممارسات الصغيرة لا تحتاج وقتًا طويلًا أو جهدًا كبيرًا، لكنها تبني مرونة نفسية تحمي من القلق والإرهاق على المدى البعيد.
الكثير من النساء يشعرن بالذنب عند إعطاء الأولوية لصحتهن النفسية. كيف تساعدهن على تجاوز هذا الشعور والنظر إلى الرعاية الذاتية كقوة وليس كرفاهية؟
الشعور بالذنب عند التفكير في الذات من أكثر ما تعبر عنه النساء في جلسات العلاج. كثيرات تربّين على فكرة أن قيمتهن مرتبطة بما يقدمنه للآخرين، مما يجعل الاهتمام بالنفس يبدو وكأنه أنانية أو ترف. لكن الحقيقة أن العناية بالنفس أساس القدرة على العطاء.
حين تمنح المرأة نفسها وقتًا للراحة والاهتمام بصحتها النفسية، تصبح أكثر حضورًا مع أسرتها، وأكثر إنتاجًا في عملها، وأقدر على مواجهة التحديات بطاقة إيجابية.
ما أؤكد عليه دائمًا هو أن الرعاية الذاتية ليست رفاهية، بل ضرورة. وحين تدرك المرأة أن العناية بنفسها تعني في النهاية عناية بكل من حولها، يبدأ الشعور بالذنب في التراجع. الرعاية الذاتية ليست مكافأة بل مسؤولية شخصية تضمن الاستمرارية والقوة.
هي استثمار طويل الأمد يشبه الاهتمام بالصحة الجسدية. فهي لا تعني التوقف عن الاهتمام بالآخرين، بل تمنح القدرة على القيام بهذا الدور بعمق وتوازن أكبر. ومع الوقت، يتحول هذا الوعي إلى مصدر قوة داخلية وثقة وطمأنينة، ويحرر المرأة من دائرة الذنب المستمر.
بالنسبة للنساء اللواتي يواجهن صراعات متعلّقة بالهوية أو انخفاض الثقة بالنفس أو حالة من عدم اليقين بشأن مسارهنّ المهني، ما هي أولى الخطوات التي يمكن أن تساعدهنّ على بناء وضوح داخلي وتعزيز قيمة الذات؟
من الطبيعي أن تمرّ المرأة بمراحل من حياتها تشعر فيها بالارتباك أو عدم اليقين، سواء فيما يتعلق بهويتها، أو صورتها عن ذاتها، أو مسارها المهني. وهذه اللحظات ليست ضعفًا بل فرصة لإعادة اكتشاف الذات.
الخطوة الأولى هي التوقف قليلًا والإنصات بصدق إلى ما تشعر به، بعيدًا عن المقارنات أو توقعات الآخرين. الاعتراف بالمشاعر كما هي يشكّل بداية لبناء وعي أوضح بالذات.
بعد ذلك، تحتاج المرأة إلى إعادة صياغة علاقتها بنفسها. فقيمتها لا تُقاس بما تحققه أو بما يراه الآخرون فيها، بل تنبع من الداخل، من إدراك نقاط القوة الصغيرة التي تشكّل أساس الثقة بالنفس. أحيانًا مجرد تدوين الإنجازات اليومية أو ملاحظة مواقف الصمود يمكن أن يكون خطوة فعّالة لإعادة بناء التقدير للذات.
أما فيما يتعلق بالحيرة المهنية، فأول ما تحتاجه المرأة هو منح نفسها الإذن بالتجربة. فالوضوح لا يأتي دفعة واحدة، بل يتشكل عبر المحاولات والتجارب. ومع وجود دعم نفسي أو توجيهي، تستطيع وضع أهداف واقعية واكتشاف ما يتوافق مع قيمها وشغفها.
بناء الوضوح والثقة بالنفس رحلة متدرجة تبدأ بالاعتراف بما تعيشه المرأة الآن، ثم منح نفسها المساحة للتجربة والتعلم والنمو. خطوات صغيرة تفتح الطريق لشعور أعمق بالقيمة الداخلية وقدرة أكبر على اتخاذ قرارات صادقة تعكس حقيقتها.
بمناسبة اليوم العالمي للتوعية بالصحة النفسية، ما الرسالة التي تود مشاركتها مع قراء "هي"—وخاصة مع النساء—حول أهمية اتخاذ الخطوة الشجاعة لطلب العلاج النفسي واحتضان مسيرة التطوير الذاتي؟
رسالتي في هذا اليوم هي أن طلب الدعم النفسي ليس علامة ضعف، بل شجاعة حقيقية تعكس وعي الإنسان بذاته ورغبته في عيش حياة أكثر توازنًا وراحة.
بالنسبة للنساء، أعلم أن الضغوط الاجتماعية والعائلية قد تجعلهن يضعن أنفسهن في المرتبة الأخيرة، وأن الاهتمام بالنفس قد يُربط بالذنب أو الخوف من الحكم. لكن الحقيقة أن العناية بالصحة النفسية أساس القدرة على الاستمرار، وأن المرأة حين تمنح نفسها المساحة للتعافي والنمو تمنح القوة أيضًا لكل من حولها.
العلاج النفسي ليس مجرد حل أزمة، بل هو رحلة لاكتشاف الذات وبناء وعي أعمق بما تحتاجه بعيدًا عن التوقعات المفروضة عليها. هو مساحة آمنة للتعلّم والتغيير وإيجاد طرق أكثر صحة للتعامل مع تحديات الحياة اليومية.
رسالتي لكل امرأة أن تتذكر أن الاهتمام بنفسها ليس رفاهية ولا أنانية، بل استثمار في قوتها الداخلية وقدرتها على عيش حياة بطمأنينة وثقة أكبر. والخطوة الأولى، مهما بدت صغيرة، قد تكون بداية لتحوّل كبير يمنحها الحياة التي تستحقها فعلًا.