كولتور شانيل Culture Chanel : رحلة استكشاف البراعة الفنية لدى كوكو شانيل

حكاية "معرض كولتور شانيل"Culture Chanel  تسبر أبعاد العلاقة التي تجمع الفن بالتصميم والموضة، من خلال اكتشاف العالم السري لـ "غابرييل كوكو شانيل"Gabrielle ‘Coco’ Chanel  مؤسسة الدار الأسطورية "شانيل".

حالما نلفظ كلمة "شانيل"Chanel ، تشتعل فينا الإثارة، ويلمع الحماس والفرح في عينينا. الاحترام الذي يلقاه هذا الاسم استثنائي، وعلينا الاعتراف بأن مقاربة مؤسسته "غابرييل كوكو شانيل" العصرية للموضة أسهمت بشكل كبير في السهولة والراحة، اللتين نعيشهما في موضة اليوم. من الفستان الأسود القصير إلى البنطلون مروراً بالأزياء الرياضية، "كوكو شانيل" أعادت تحديد مفهوم اللباس عند النساء. منحت حديثاً فرصة زيارة معرض عن هذه السيدة الرائعة لفهم المزيد عن حياتها في شنغهاي الملقبة بـ"باريس الشرق". فتح "معرض كولتور شانيل"Culture Chanel ، الذي أقيم في متحف "ميوزيوم أوف كونتمبوراري آرت (موكا)"Museum of Contemporary Art (MoCA)  أبوابه يوم 15 يناير / كانون الثاني، يستمر حتى 14 مارس / آذار 2011.

تتوفر مجموعة متألقة من الكتب والأفلام التي تستكشف الجوانب المختلفة من حياة غابرييل شانيل، لكن هذا المعرض الرائع يغوص في قلب ماركة "شانيل" بطريقة لم نرها من قبل. فهو يعرض ثقافة الدار، ويسلط الضوء على الصلة بين ابتكارات "غابرييل شانيل"، والثقافة الفنية الباريسية التي عاشتها.

الصورة الموجودة في الحملة التسويقية للمعرض هي البورتريه لمادموازيل شانيل، من التقاط "مان راي"Man Ray  في العام 1935، وهو البورتريه ذاته الذي استعمل على غلاف كتاب "ذو ألور أوف شانيل"The Allure of Chanel ، الذي أعيد إطلاقه حديثاً من نشر "بشكين برس"Pushkin Press ، وقد ألفه "بول موران"Paul Morand ، وابتكر رسومه "كارل لاغرفيلد"Karl Lagerfeld .

"كولتور شانيل" يستعرض علاقة غابرييل شانيل بالفنانين، من حيث استلهامها منهم وإلهامهم مثل "جان كوكتو" Jean Cocteau، و"بابلو بيكاسو" Pablo Picasso، و"بيار ريفيردي"Pierre Reverdy، و"إغور سترافنسكي" Igor Stravinsky.

والمعرض، الذي يديره الناقد الفني الفرنسي المعروف "جان لوي فرومان"Jean-Louis Froment ، موزع في طابقين من المتحف، وينقسم إلى 5 مواضيع، لما يعنيه هذا الرقم للدار. كما من الغريب أنه يتزامن مع الذكرى الخامسة لافتتاح متحف "موكا" في شنغهاي.

تنظيم المكان والديكور وتنسيقهما منمنمان وبسيطان وصافيان، وهو ما ذكرنا بقول غابرييل شانيل: "دائماً أزيلوا، لا تضيفوا". استخدم زجاج البلكسي لعرض أكثر من 400 قطعة شملت أزياء وإكسسوارات وقطعاً فنية ومخطوطات وأفلام فيديو وغيرها، في تجهيزات عالية ترمز إلى ناطحات السحاب، التي تشتهر بها شنغهاي. ومنها 100 قطعة مستعارة من المتاحف الوطنية والمجموعات الخاصة من حول العالم.

الطابق الأول يعالج ثلاثة مواضيع هي الأصل والتجريد والخفي، أما في الطابق الثاني، فنجد موضوعي الحرية والخيالي. كل الأشياء المعروضة موضوعة على قواعد عالية تمثل خطوة إلى عالم "كوكو شانيل" الغامض. لندخل الآن إلى هذا العالم من خلال هذه المواضيع الخمسة.


الأصلOrigin

الموضوع الأول تحت عنوان "الأًصل" يستعرض تأثر أسلوب غابرييل شانيل بنشأتها كيتيمة في المدرسة الداخلية الدينية "أوبازين" Aubazine. فهذا كان الماضي الذي لم ترد أن تتذكره، لكنه لم يغب أبداً كما قالت "إدموند شارل رو" Edmonde Charles Roux في "ليريغوليار أو مون إتينرير" ‘L’Irreguliere ou mon Itineraire Chanel’  الذي صدر في العام 1974 عن "إديسيون غراسيه" Editions Grasset: "كل مجموعة من مجموعاتها كانت بمنزلة عودة انفرادية، رحلة طويلة غير معلنة إلى أسرار ماضيها الغامضة... الماضي الذي لم تتحدث عنه يوماً".

تفضيلها اللون الأسود والتيار الأدنوي متجذر فيها من الأعوام التي أمضتها في مدرسة "أوبازين"Aubazine . كما أن هناك روابط أخرى كثيرة، مثل الشبه الغريب بين شعار "شانيل" وشكل حرف الـ"سي" في زجاج أوبازين الملطخ. القطعة الزجاجية الملطخة من "أوبازين" التي أعاد تشكيلها "كارلو روكيلا" Carlo Roccella، وقارورة عطر "شانيل رقم 5" Chanel No5 التي تضمنت للمرة الأولى شعار حرف "سي" C المزدوج على سدادتها البلورية تسلطان الضوء على هذا الرابط. كما يمكنكم مشاهدة فيلم "ستايند غلاس" Stained Glass  من "شانيل، باري - أوبازين" Chanel, Paris-Aubazine  لـ"جيروم شلوموف"Jérôme Schlomoff  إلى جانب كل هذه الأعمال، وهو ما يؤكد دقة التفاصيل، التي اعتنى بها مدير المعرض. ولا ننسى دبوس البروش "كوميت" Comete  الأصلي، الذي ابتكر لمعرض "بيجو دو ديامان" Bijoux de Diamants  في العام 1932، والذي استلهم من النجوم الموجودة على رصيف دير "أوبازين".

ورغم أن غابرييل شانيل لم تدون مجريات حياتها، يمكننا إيجاد تلميحات عن شخصيتها وتفضيلاتها بأشكال عدة، فنفهم مثلاً أنها تفضل البساطة من الجمل التالية، التي كتبتها في مقدمة الملف الصحفي الأصلي لمعرض "بيجو دو ديامان"Bijoux de Diamants ، حيث قالت: "بدأت أبتكر المجوهرات المختلفة المتحررة من العجرفة في فترة مالت فيها الأذواق إلى الرفاهية المتباهية، إنني اخترت الماس، لأنه يمثل القيمة الكبرى بأقل حجم".


التجريدAbstraction

يفسر "جان لوي فرومان" المفهوم وراء الموضوع الثاني أي "التجريد"، ويقول: "القرن العشرين هو قرن التجريد، لقاءاتها (غابرييل شانيل) بالفنانين التكعيبيين والشعراء الطليعيين اندمجت مع اللغة البصرية الصافية والراقية، التي اكتسبتها في (أوبازين) ليولد أسلوبها، أسلوب (شانيل)".
أما "جان كوكتو"Jean Cocteau  في "لو روتور دو مادموازيل شانيل" في مارس / آذار 1954، فقال: "بأعجوبة ما، عملت في الموضة متبعة قواعد لا تهم إلا الرسامين والموسيقيين والشعراء. ففرضت الخفي، فرضت نبل الصمت على ضجيج المجتمع".

وعدد من القطع المعروضة سلطت الضوء على هذه العلاقة، مثلاً من خلال تأثير "موندريان"Mondrian  الواضح في أعمال كوكو شانيل، رغم أنها لم تلتقه يوماً. فعلبة مسحوق العطر "شانيل رقم 5"Chanel No.5  مع خطوطها الأنيقة السوداء تذكر كثيراً بلوحة التشكيلات المعينة من "بيت موندريان"Piet Mondrian  في العام 1931. وفي ملصق رائع مكتوب بخط اليد يعود إلى العام 1959، ويصف العلاقة بين الفن والموضة، كتب "جان كوكتو" الذي يقال: إنه من جعلها تحب الابتكارات العصرية، مثل الرسم والمسرح والشعر:
"الموضة تموت شابة، وهو ما يجعلها مميزة إلى هذا الحد. مادموازيل شانيل قالتس، الموضة تصنع الأشياء الجميلة التي تصبح قبيحة. الفن يصنع الأشياء القبيحة التي تصبح جميلة. في عالم الفن، الموضة ذريعة لخرق كل القواعد. وعلى خرق كل القواعد أن يكون القاعدة الذهبية لكل المبتكرين".

وهذا هو بالضبط ما فعلته غابرييل شانيل في تلك الفترة، فخرقت كل القواعد لتبتدع فساتين تعجب المرأة العصرية، وتلائم طريقة حياتها الجديدة. ففي واحد من أعداد مجلة "فوغ" الأمريكية في العام 1926، لقب الفستان الأسود القصير، الذي أحدثت شانيل من خلاله ثورة في عالم الموضة بـ"الفورد من شانيل"The Ford by Chanel ، وتتوفر رسمة للفستان من عدد نوفمبر / تشرين الثاني 1926، لـ"فوغ باريس" في المعرض.

في كاتالوغ عطورها الموجود في المعرض أيضاً، كتبت شانيل: "القارورة المثالية يجب ألا تتنكر بالاختراعات المألوفة، فعادة ما تتخفى منتجات ذات جودة مشكوك فيها وراء (قناع) القوارير المرموقة، وهو ما يكسبها جوائز الصحافة الوصولية، وإعجاب الجمهور الساذج". تفتخر مادموازيل شانيل بتـأمينها لزبائنها المطلعين، وفي قوارير بسيطة وعلب مزخرفة فقط ببياضها، قطرات عطر ثمينة تكشف عن الشخصية الفنية لمبتكرها.

هل لاحظت عبارة "الشخصية الفنية" في المقطع السابق؟ هذا ما ينعكس بوضوح في إعلان لـ"شانيل رقم 5" ظهر في عدد نوفمبر 1937 من "هاربرز بازار أرابيا يو إس"Harpers Bazaar Arabia US ، حيث تقف كوكو شانيل بشموخ ملكي في شقتها في 31 رو كامبون، فوصفت بـ"الفنانة في طريقة معيشتها". وتجدر الإشارة إلى أن إطلاق عطر "شانيل رقم 5" كان في العام نفسه (1921) الذي ألف فيه "إغور سترافنسكي"Igor Stravinsky  مقطوعة "الأصابع الخمس" الشهيرة. ويتضمن المعرض بصمة لغابرييل شانيل مع توقيعها وبورتريهات لـ"إغور سترافنسكي" من ابتكار "بابلو بيكاسو". وإضافة إلى عرض صلات الوصل بين تاريخ غابرييل شانيل ودار "شانيل" الحالية، من خلال ابتكارات كارل لاغرفيلد، لجأ المعرض أيضاً إلى منتجات الجمال والعطور من "شانيل"، فرأيت مثلاً عرضاً لأنابيب من أحمر الشفاه "روج كوكو"Rouge Coco ، وقوارير من عطر "شانيل رقم 5".

وبعد الاطلاع على هذا الموضوع، سألت "جان لوي فرومان" عن الفنانين الثلاثة الذين كانت ستتأثر بهم غابرييل شانيل، اليوم، لو كانت لاتزال على قيد الحياة، فأجابني: "ما كانت لتستوحي من فنانين، بل من أشخاص يمكنهم تغيير العالم، ويمكن أن يكونوا فنانين".


الخفيInvisibility

عبر المعرض عن الموضوع الثالث بعنوان "الخفي" على مستويين. أولاً من خلال إظهار معتقدات غابرييل شانيل الخرافية، التي عاشت في داخلها بقدر ما عاشت في داخلها روحانيتها، فبانت رموز عالمها الحميم في تفاصيل متنوعة من ابتكاراتها من الأزرار إلى المجوهرات. فالقمح مثلاً رمز إلى الابتكار والازدهار، ونذكر هنا لوحة سنبلة القمح التي أهداها "سلفادور دالي"Salvador Dali  في العام 1947 إلى شانيل، والتي مازالت معروضة في شقتها في 31 رو كامبون. 
سلفادور دالي كان من الأصدقاء المقربين إلى غابرييل شانيل، وعادة ما استقبلته مع زوجته في فيلا "لا بوزا"La Pausa  في جنوب فرنسا. وتتوفر صور كثيرة التقطت لدالي وزوجته في هذه الفيلا، كما يعرض "كولتور شانيل" "إندلس إنيغما"Endless Enigma ، وهي إحدى روائعه. وفي صفحة بخط اليد من "ذو سيكرت لايف أوف سالفادور دالي"The Secret Life of Salvador Dali ، يشرح علاقة شانيل بالموضة فيقول: "لطالما كانت الموضة لها ذات تحديد بيولوجي وأصل متواضع. هي الأكثر أناقة جسداً وروحاً". كما نجد في المعرض إهداءات من أصدقاء آخرين لها، مثل كتابي "تايز أوف جوت"Ties of Jute ، و"بويتس أوف توداي"Poets of Today  لـ"بيار ريفيردي"Pierre Reverdy .

أما الناحية الثانية من هذا الموضوع، فنراها من خلال الرفاهية التي أعجبت غابرييل شانيل التي تبنتها، فقد قالت: "الأناقة تنبع من الجمال الداخلي الذي يوازي الجمال الخارجي". وهذا ما يتجسد في معطفين معروضين يتميزان بالنقوش الرائعة على البطانة  الداخلية. والترجمة العصرية لهذا المفهوم تذكرنا بعرض الهوت كوتور لموسم خريف / شتاء 2005 من شانيل، حيث أرسل "كارل لاغرفيلد" عارضاته إلى خشبة العرض مرتديات معاطف سوداء مفتوحة عند النصف، لإظهار فساتين جميلة بألوان نابضة بالحياة.


الحريةLiberty

بالانتقال إلى الطابق الثاني، وتحديداً إلى موضوع "الحرية"، نطلع على حرية الحركة التي منحتها غابرييل شانيل إلى النساء، من خلال أزيائها. فهدفها كان ارتداء الأزياء بطريقة حرة تماماً، مثلما يفعل الرجال. فيقال: إن شانيل كانت أول من ابتدع الأسلوب الحقيقي للمرأة العصرية.

فتميزت شانيل بروحها الحرة وأسلوبها الرياضي، وأدهشت عالم الموضة حين ارتدت البنطلون، وأيدت طلة الـ"غارسون" الصبيانية. فاستعارت أغراضاً من موضة الرجال مثل النقوش البحرية وسترات صيادي السمك.

الكاميليا التي تعرف اليوم كرمز لدار "شانيل" كانت الزهرة المفضلة لدى غابرييل. وقيل إنها تأثرت بالمسرحية المأخوذة عن كتاب "ذو لايدي أوف كاميلياز"The Lady of Camellias  لـ"ألكساندر دوما"Alexander Dumas . وفي المعرض، نسخة عن هذا الكتاب، وصورة لـ"مارسيل بروست"Marcel Proust  يرتدي كاميليا على سترته يقال: إن غابرييل شانيل سرقتها من سترته، ووضعتها على فستانها، والباقي كما يقولون صار تاريخاً.

وقد أدخلت شانيل تعديلات كثيرة إلى خزانتها، ففضلت مثلاً الرصانة على الافتضاحية. الأناقة "الفقيرة" لفساتين الجرسيه، والقصات الحيوية للبذلات، وسيطرة الألوان الطبيعية، واعتماد الأزياء العملية في الموضة البورجوازية.... صممت أولاً للراحة. 

نعرف أن غابرييل شانيل ابتكرت تصاميم حررت المرأة، فسألت جان لوي فرومان كيف تمكن دار "شانيل" اليوم المرأة، فأجاب: "مادموازيل شانيل مكنت النساء، وكارل لاغرفيلد يبتكر التصاميم ذات الجذور المرسخة في تاريخ الدار، لكن مع إضفاء عصريته عليها".