ميريل ستريب ربة عائلة تذوي في مهب الريح

عماد عبد الرازق
 
ليس فيلما لذوي القلوب الضعيفة او المشاعر المرهفة. كلا ليس فيلم رعب كما قد يتبادر الى ذهن البعض فورا. لكن عنفوان الدراما وعمقها وتراكم طبقاتها وشدة وطأتها على أبطالها، وتشابك خيوط صراعاتهم المعلنة والخفية التي توشك على الانفجار  في كل لحظة يتقدم فيها الحدث قيد انملة، كل هذا يجعل من فيلم  "اغسطس، مقاطعة اوسيج" اشد وقعا على نفس وعقل المشاهد من اشد أفلام الرعب إرهابا من جنس دراكولا وفرانكشتين وراسبوتين وطاردو الارواح" و"الموتى الاحياء" و"عفريت الليل ابو سبع رجلين" وسائر الشخصيات الخرافية التي كانت فرائصنا ترتعد لمجرد ذكرها ونحن صغارا.
 
وهو فيلم، لكل ما سبق، لا ننصح احدا بمشاهدته بمفرده لا توجد إراقة دماء ولا عنف من اي نوع ولا مطاردات. فقط دراما عائلية مكثفة تنوء تحت وطأتها الشخصيات بمثل ما يجثم عليهم المكان في مقاطعة '"اوسيج" بولاية أوكلاهوما بطقس اغسطس الخانق الذي يعمق من التوتر الدرامي ويزيد من احكامه. 
 
وقبل كل هذا، هذا فيلم لعشاق ميريل ستريب، أبرع ممثلات جيلها موهبة وحضورا وتنوعا في الأدوار على نحو يندر ان تبزها فيها ممثلة اخرى.
 
ورغم هذا التنوع الثري في سجلها السينمائي فلا شك انها هنا تبلغ ذروة جديدة في واحد من أقوى أدوارها الى درجة مذهلة ( كى لا نقول مرعبة، مجازا).  النجمة الآثرة ذات الجاذبية والكاريزما التي لا تقاوم، تهيمن على الفيلم منذ المشهد الاول، حاضرة هى بقوة في قلب الدراما والأحداث، حتى في تلك المشاهد التي لا نراها فيها نستشعر وجودها تنوء بثقله سائر الشخصيات الاخرى، وبعضهم وبعضهن ترتعد فرائصهم بالمعنى الحرفي حين تتكلم او تطلق سهامها التي نكاد نلحظ الكلمات تقطر منها كسم زعاف. لا ادري كيف راوغ الأوسكار النجمة الجميلة في هذا الدور المبهر وهى صاحبة السجل الأعلى في الترشح والفوز بالجائزة المرموقة!!؟ 
 
رحيل الأب يفجر الدراما العائلية
دراما العائلة المفككة، المتناحر أفرادها، المثقلة نفوسهم بتاريخ اسري من الضغائن والغيرة والتنافس وغير قليل من الكراهية والبغضاء احيانا، نلحظ انفجارها الوشيك من الوهلة الاولى، وفي القلب من كل هذا ' فيوليت ويستون' ( ستريب) الام الطاغية سليطة اللسان، تصارع مرضها العضال ( السرطان) الذي يدفع بها يوما بعد اخر نحو المصير المحتوم، عبر الإدمان على الشراب والعقاقير، سلاحها الوحيد في مقارعة الألم. التأم شمل الاسرة فجأة على اثر رحيل الاب ' بيفرلي ويستون' ( سام شيبارد)، شاعر مرموق نتبين لاحقا انه انتحر في غرفة بأحد الفنادق، وهو الحدث الذي يطلق مكنون الدراما العائلية من عقالها، وأصابع وعيون الاتهام تتجه في صمت نحو الام كسبب مباشر لانتحاره، بشخصيتها الطاغية، ولسانها السليط وانزلاقها يوما بعد آخر في أتون الإدمان. يبدو ذلك كالسر الذي يعرفه الجميع دون ان يجرؤ احد على ان ينطق به.
 
يلتئم شمل العائلة على طاولة العشاء بعد انتهاء مراسم الدفن والعزاء. الأم تتصدر المائدة بحضور بناتها الثلاث: ' باربارا' (جوليا روبرتس) وزوجها 'بيل فوردهام' ( يوان ماغريغر) وهما منفصلان وبدءا في إجراءات الطلاق وابنتهما المراهقة ' جين' ( ابيغيل بريسلين). الابنة الوسطى ' كارين'، ( جوليت لويس)، التي وصلت مع خطيبها ' ستيف' ( ديرموت ملروني)، والابنة الصغرى ' ايفي' ( جوليان نيكلسون). وخالتهم، الأخت الصغرى لفيوليت، 'ماتي' ( مارغو مارتنديل، ممثلة مذهلة اداء حضورا)  وزوجها.،  تشارلي ايكن' ( كريس كووبر) وابنهما المعروف باسم ' تشارلي ايكن الصغير'، ( بنيدكت كامبرباتش)، الذي يصل متأخراً بعد العزاء والجنازة وينال من لسان امه  ( التي يجمعها وأختها فيوليت الطابع السليط وان تظاهرت بعكس ذلك)، غير قليل من التوبيخ.
 
تنافر الشخصيات الرئيسية، كلها تقريبا، يبدو مذهلا ومنبعا لتوتر درامي لا ينقطع طوال الفيلم. الأخت الوسطى ' كارين'، ذات شخصية هوائية، سطحية، وعلى درجة من التفاهة  تحيا في عالم هلامي. خطيبها الذي أحضرته للقاء العائلة سبق له الزواج ثلاث مرات، ولشدة غفلتها تبدو مفتونة به، في حين انه يبدو مهووسا ب '. جين' المراهقة التي لم تتجاوز الأربعة عشر عاما،. ابنة ' باربرا' اختها الكبرى. هذه الاخيرة هى الأكثر قوة وعنفوانا وصراحة وايضاً وقاحة بين الأخوات  الثلاث، وتبدو شخصيتها وقد قدت من نفس قالب الام السلطية المتسلطة. ولذا فهى دونا عن الاثنتين التي تتصدى لامها بقسوة مؤلمة وتواجهها بحقائق آدمانها وتحاول ان تحول دون انزلاقها التام نحو الهاوية. لكن ' باربارا' رغم دوافعها النبيلة نحو الام ليست هى الأكثر شفقة وحنوا علىها. فهذا الدور اضطلعت به الابنة الصغرى ' ايفي' الوحيدة التي بقيت برفقة أمها في منزل العائلة لترعاها.
 
لكنها هي أيضاً تتأهب على الرحيل بصحبة حبيبها ' السري' الذي لم تبح باسمه لأحد بعد، لكننا سرعان ما نكتشف انه ليس سوى ' تشارلي ايكن الصغير' وهو بدوره متكتم على حبه السري لدرجة الرعب من مغبة انكشافه. هو في الحقيقة في حالة رعب شبه دائمة، فهو مرهف الحس وضعيف الشخصية ومهزوز لدرجة يخيل للمشاهد انه على وشك الانهيار في اي لحظة. لكننا أيضاً نرى رقته ومشاعره المرهفة في المشاهد التي تجمعه وحبيبته خلسة. الحبيبان السريان على وشك ان يواجها الصدمة الأكبر في حياتهما.
 
ثم ان حبهما ليس سراً تماماً كما يتخيليان. فالام التي لا تكاد تفيق من إدمانها تتمتع رغم ذلك بذهن حاد  وترقب كل ما يدور حولها بعيون يقظة ولا تكف طوال الفيلم عن تذكير الجميع بنبرات ساخرة واثقة من انها تدرك كل ما يدور حولها ' انا اعرف كل ما يدور هنا.. هل تظنوني غافلة!'، وتعرف ما يخبئه كل واحد منهم في سريرته ولا تتردد في ان تفضح من تشاء كلما عن لها لتثبت للجميع انها صاحبة الكلمة الاخيرة في كل ما يدور. حتى السر الدفين الذي يخص الحبيبين البائسين الذي كانت اختها ' ماتي' تتكتمه وهو فضيحة عائلية بكل المقاييس، تفاجأ ' ماتي' بأن ' فيوليت' تعرف به منذ وقوعه منذ سنوات طويلة. ( ولا داعٍ  للكشف عنه هنا حتى لا نفسد عليكم الاستمتاع بالفيلم). 
 
منزل العائلة الآيل للسقوط
تكشف هذه الأسرار واحدا بعد الاخر يدفع بالعائلة المفككة أصلا الى مزيد من التشرذم، ويضع كل منهم في مواجهة حقائق الماضي التي ظل بعضها طى الكتمان والبعض الاخر كحقائق مسكوت عنها لا يجرؤ احد على الحديث عنها. الجميع في طريقهم للهروب من الجحيم المزدوج: إرث العائلة المترع بالالام والضغائن والضمائر المثقلة بالاسرار الفضائحية، وحاضرها الذي تشكل الام بمرضها العضال وادمانها العضال أيضاً قلبه النابض بالمعاناة الماساوية. وفوق الجميع يجثم المنزل العائلي بجدرانه الخانقة المحملة بالذكريات التي يفر منها الجميع، فيما حرارة الصيف اللاهب تمثل معادلا  ماديا اخر لمشاعر الاختناق التي تجد  كل من بالمكان وتدفعهم دفعا الى الهروب من الجحيمين، الأكبر والأصغر. 
 
الفيلم مأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم من تأليف "تريسي لتس" عرضت في برودواي، حي المسارح في نيويورك، لموسم طويل وحققت نجاحا جماهيريا هائلا توج بفوزها بجائزة ' بوليتزر' الأدبية المرموقة. انها دراما عائلية ذات زخم مأساوي ينبثق مع لحظة رحيل الاب المفاجئ فيفجر غيابه الصادم  سيلا من الصراعات والأسرار كابد أفراد الاسرة كل على طريقته ان يبقيها مطمورة في مكمنها طويلا الى ان فاضت عن مكامنها فأغرقت العائلة بتداعياتها المؤلمة. نحن نأسى كثيراً لهذه الشخصيات مع تكشف محنة كل منها تباعا، ونحزن للأسرة ونحن نتابع تضعضع أركانها وتشتت أفرادها كل في طريقه الخاص الذي اختاره للهروب من "منزل العائلة الآيل للسقوط".
 
يندر ان يلتقي المرء بمثل هذا الزخم من الأداء التمثيلي لمجموعة من المواهب الفذة في مقدمتهم العملاقة ميريل ستريب والنجمة الرائعة جوليا روبرتس (في واحد من افضل أدوارها) تقدمان شخصيتين فريدتين في تعقيدهما وقسوة الصراع الذي يحكم دينامية العلاقة بينهما ولسوف يهز المشاهد من الأعماق في بعض أقوى مشاهد الفيلم. ولا نملك الا ان نتعاطف مع كلاهما على ما في ذلك من تناقض: الام التي ينهشها الإدمان والمرض وتوشك ان تذوي تحت وطأتهما، والابنة الكبرى الممزقة بين مشاعر الذنب لعدم بقاءها بجانب أمها المكلومة، واحساسها بالضغينة تجاهها بسبب طباعها المتسلطة القاسية، وفي الوقت ذاته ترقب عائلتها تتفكك بعد ان انفرط عقد أسرتها الصغيرة بانفصالها عن زوجها. 
 
حتى بإرقة الأمل الوحيدة المبشرة في الفيلم متمثلة في علاقة الحب العذري الجميلة بين الابنة الصغرى "ايفي" وابن خالتها "ليتل تشارلز" الشاب الضائع المنطوي الذي يتلوى تحت وطأة إحساسه المضني بالفشل وافتقاد الأمن والأمان، محكوم عليها سلفا بالإعدام.