"يومان وليلة": الفرد في مواجهة الجماعة

هي: عماد عبد الرازق 
 
قليلة هي الأفلام التي انتجت عن تأثيرات الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد العالمي انطلاقا من الولايات المتحدة عام 2008، خاصة تلك التي انتجتها هوليوود، ومن بينها فيلم " لارى كراون" بطولة توم هانكس وجوليا روبرتس، وينتمي الى نوعية  الكوميديا الرومانسية.
 
اما خارج هوليوود فالأمر لا يختلف كثيرا  لكن واحدا من احدث الأفلام التي تتناول اثار تلك الأزمة المالية هو فيلم ' يومان وليلة واحدة Two Days, One Night' للأخوين ' دا ردن': جان بير، و لوك، وهما ثنائي سينمائي بلجيكي معروفان بأفلامهما ذات المستوى الفني الرفيع منذ ان بدءا العمل في صنع أفلام تسجيلية في السبعينات من القرن الماضي، وهما ثنائي سينمائي بالمعنى الحرفي أي أنهما يعملان سويا بشكل شبه دائم، ويتحكمان في عملية صنع افلامهما كتابة وإنتاجا وإخراجا من الألف للياء.
 
التفتت السينما العالمية لأعمال الاخوان ' داردن' لأول مرة من خلال فيلم ' الوعد La Promisse , The Promise' في منتصف التسعينات. لكن التقدير والشهرة الحقيقية طرقت بابهما حين فاز فيلمهما ' روزيتا Rossetta ' بالسعفة الذهبية، جائزة مهرجان كان السينمائي الكبرى عام 1999. في العام 2005 كان على موعد اخر مع المجد السينمائي حين فاز فيلم L'Enfant,The Child بالجائزة الكبرى، لينضما بذلك الى نادي النخبة من الفائزين بالسعفة الذهبية مرتين ( في ذلك الوقت كان النادي يضم سبعة مخرجين فقط). وفي 2008 فاز فيلمهما ' صمت لورناle Silence de Lorna' بجائزة مهرجان " كان" لأفضل سيناريو. وفي 2011 فاز فيلمهما ' الصبي ذو الدراجة The Kid With The Bike' بالجائزة الكبرى في مهرجان كان.   
 
ساندرا في مواجهة  الجميع
يلتقط الثنائى قصة إنسانية بسيطة يمكن ان نلتقي بها في اي مدينة او بلدة صغيرة في أوساط الطبقة العاملة او المتوسطة ليسلطانا الضوء على تداعيات الأزمة المالية من خلالها دون التطرق الى القضايا السياسية او الاقتصادية الكبرى المتداخلة في ثنايا تلك الأزمة، وإنما يركزان كلية على الجانب الانساني من خلال شخصية رئيسية هي ' ساندرا'( وتجسد دورها ماريون كوتيارد' نجمة السينما الفرنسية الجميلة التي لمعت في سماء العالمية بعد فوزها بأوسكار افضل ممثلة عن فيلمها ' الحياة وردة La Vie En Rose' والذي جسدت فيه شخصية المغنية الفرنسية الأشهر ' اديثبياف'، وقد فازت عن الدور ذاته بعدة جوائز).
 
ساندرا عاملة بسيطة في مصنع صغير بإحدى ضواحي مدينة بلجيكية. مديرو المصنع  قرروا الاستغناء  عن خدماتها بسبب الأزمة المالية التي دفعت الكثير من الشركات والمصانع حول العالم لتقليص العمالة بهدف تقليل الخسائر او تجنب شبح الإفلاس. وكما هي العادة فان العمال او الموظفين هم أولى ضحايا تلك الأزمات المالية.
 
الى هنا تبدو القصة عادية تحدث وحدثت في آلاف المصانع. لكن القصة تكتسب تفردها وزخمها الدرامي من خلال تفصيلية بسيطة تفتح الباب على صراع درامي إنساني من الطراز الاول لا نلتقي به الا في الاعمال الكلاسيكية العظيمة. وهو صراع مكثف للغاية ما يجعله مشحونا بتوتر وتوقع مثير لا ينقطع من البداية للنهاية، لان احداث الفيلم تدور وكما يشي عنوانه في يومين وليلة فقط لا غير وهذا التكثيف في الزمان والمكان هو أيضاً ما يضع القصة على مصاف الماسي الكلاسيكية كما في المسرح اليوناني او مسرح شكسبير. 
 
التحول البسيط  ظاهريا والعميق في مغزاه في مسار القصة يتمثل في ان اصحاب المصنع بعد ان قرروا الاستغناء عن ' ساندرا' لجأوا الى حيلة مفتعلة وخبيثة كى تكفيهم من تحمل المسؤولية على قرار الاستغناء عنها. فقد أعلنا للعمال جميعا ان زميلتهم ' ساندرا' بوسعها ان تحتفظ بوظيفتها لو ان سائر زملائها قبلوا بالاستغناء عن المكافأة السنوية لكل منهم ومقدارها الف يورو. 
 
هكذا بحيلة خبيثة حول اصحاب المصنع الصراع الدرامي ليكون بين ساندرا من ناحية وزملاءها وزميلاتها من ناحية اخرى. مثل هذا الالتواء يجعلهم يبدون بوجه إنساني من خلال  التظاهر بحرصهم على مصلحة العاملة ' ساندرا' دون ان يخسرا شيئا في حال ما وافق زملائها على التخلي عن مكافأتهم السنوية.
 
لكن ساندرا هي من بحمل عبء هذا الصراع اكثر من اي شخص اخر. فهي تعلم بالقرار الغريب، المريب قبل عطلة نهاية الأسبوع مباشرة، ويعني ذاك ان أمامها يومان فقط  وليلة واحدة ، ( الاثنين) حيث سيتم التصويت على القرار من قبل زملائها وزميلاتها. وهذا يعني ان أمامها هذا الوقت المحدود جداً لتقنعهم بان احتياجها لوظيفتها اكبر من احتياجات كل منهم للعلاوة السنوية. 
 
كلنا في الهم سارة 
لا يتركنا الفيلم وشأننا لنتعاطف مع البطلة " سارة" الأجدر بتوحدنا مع محنتها، فهي المهددة بفقدان كل شيء بدءا بعملها والمنزل الذي يأويها واسرتها. نحن نتوقع ونتمنى ان يغلب رفاقها انسانيتهم على النزعات الأنانية، ويمارسون قدرا يسيرا من انكار الذات حتى تحتفظ " سارة" بعملها. لكن الكاميرا تأخذنا تدريجيا الى خلف أبواب أسر بعض هؤلاء العاملين والعاملات من زملاء " سارة" لنكتشف واحدا بعد الاخر، كيف ان تلك العلاوة السنوية تشكل اهمية قصوى لكل أسرة، بل في بعض الأحيان طوق نجاة، لسداد احتياجات جد ضرورية، طال انتظارها طوال العام كله. هكذا يلقي بنا الفيلم في آتون الصراع الذي تخوضه لا " سارة" وحدها، بل كل شركائها في هذه البطولة الجماعية، علما ان معظمهم ممثلون مجهولون لا يتمتعون بأي شهرة. 
 
هكذا تتوزع مشاعرنا ومشاركتنا لمعاناتهم بالتساوي تقريبا، حين ندرك ان وراء كل عامل وعاملة أسرة هي في مسيس الحاجة لتلك العلاوة التي طال انتظارها. وكل منهم ايضا، في نفس اللحظة، لا يخفي تعاطفه مع زميلتهم " سارة" ويتمنون لها ان تحتفظ بوظيفتها. هذا الصراع المضنى الذي يعتصر القلب تلخصه احدى زميلاتها بعبارة موجزة وبليغة حين تقول " سيكون الأمر اشبه كارثة بالنسبة لي لو أن الغالبية صوتت لصالحك. لكنني مع ذلك اتمنى ان يصوتوا لصالحك حتى تحتفظين بعملك". هكذا يضع الفيلم الفرد في مواجهة الجماعة من خلال صراع انساني مركب، يصعب على أي منا ان يختار بين احد طرفيه  دون ان يعاني وخزات الضمير على نحو او آخر. 
 
يتميز الفيلم بواقعية واضحة في كل عناصره، بدءا من التصوير الذي تم في مواقع خارجية حقيقية بالقرب من احد المصانع بإحدى الضواحي، الى الأداء التمثيلي المنضبط دون اسراف في التعبير عن الانفعالات، والحوارات القصيرة المقتضبة التي يدور معظمها بين " سارة" وزميلاتها وزملائها في العمل، خلال محاولاتها اقناعهم بالتصويت لصالح احتفاظها بعملها.