"فجر كوكب القرود" يتبدد على أيدي أبناء كوكب الأرض

هي : عماد عبد الرازق
 
هذا الفيلم من افضل ما شاهدت هذا العام حتى الآن، ولا ينبغي ان تفوتكم مشاهدته في دار السينما، ايا ما كان حجم شاشة التليفزيون في منزلك. فيلم صنع للمشاهدة في دور العرض، ويفضل لو كانت شاشة سينما ثلاثية الأبعاد، حتى لا تفوتكم متعة فريدة وجديدة في مشاهدة ممثلين بشر يؤدون ادوار حيوانات، بفضل تقنية جديدة تشكل قفزة نوعية في صناعة الصورة الرقمية. 
 
انسوا افلام " كينغ كونغ"، و"غودزيلا"، و " إي تي"، وكل روائع ديزني الكرتونية من " كتاب الأدغال" الى " الأسد الملك" و انتهاء ب " كونغ فوو باندا"، فمنذ أسبوعه الاول تصدر ' فجر كوكب القرودDawn of the Planet of Apes" قائمة الأفلام الأعلى إيرادات. هذا النجاح التجاري الذي يتوقع له ان يستمر لأسابيع قادمة لا يضاهيه سوى نجاح فني غير مسبوق جعله ومخرجه ' مات ريييف' محط إعجاب معظم النقاد، وهو امر يصعب  آن يتحقق لفيلم  هوليوودي، اي الجمع بين الجماهيرية والجدارة الفنية. 
 
ما يجعل هذا النجاح المزدوج أمرا لافتا هو ان الفيلم ليس جديدا في موضوعه بل هو جزء من سلسلة يعود أولها الى العام 1968, وغالبا ما تتفاوت حظوظ  أفلام السلاسل بين النجاح الساحق او السقوط المدوي. فالتحدي الذي يواجه صناع مثل هذه الأفلام المسلسلة يكمن دائماً في الإتيان بجديد سواء دراميا او على صعيد التقنيات السينمائية والفنية.
 
الفيلم الأخير هو الجزء المكمل لفيلم أنتج عام 2011 بعنوان ' ثورة كوكب القرود Rise of the Planet of Apes' وكلاهما تنويع على السلسلة الأصلية التي تمتد لعدة عقود منذ ' كوكب القرود Planet of the Apes' الأصلي(1968). اما ابرز عوامل نجاح الفيلم الأخير فهى بلا شك التقدم الهائل في تكنولوجيا تصنيع الصورة السينمائية الرقمية، وهو امر لم يتحقق بنفس الدرجة ولا الدقة التي يتميز بها هذا الفيلم. 
 
فبينما كان الفيلم الأصلي في الستينات من القرن الماضي يعتمد على ممثلين يرتدون أقنعة بلاستيكية، فان الفيلم الجديد يوظف تقنية فريدة تمكن الممثلين الذين يتقمصون ادوار القردة من تسجيل ادق المشاعر والانفعالات بوجوههم. وهو ما جعل تعاطف المشاهد مع الشخصيات ( او ضدها، في حالة الشخصيات الشريرة) كبيرا حتى ان بعض المتفرجين لم يقاوموا البكاء في بعض المشاهد المؤثرة. (وهو امر لم يحدث بنفس الدرجة مع ابطال الفيلم من البشر).
 
إنفلونزا القردة
 
يبدأ الفيلم بعد عشر سنوات من احداث الفيلم السابق ( ثورة كوكب القرود، 2011)، وتناولها باختصار ضروري لفهم الفيلم الجديد، فنحن الان في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا في مستعمرة تضم بضعة آلاف من الذين كتبت لهم النجاة من وباء نوع معين من ' إنفلونزا القردة'. هذا الوباء القاتل الذي اهلك الآلاف حتى الان بدأ في إحدى معامل واحدة من كبريات شركات الأدوية كانت تجري تجارب على دواء جديد لعلاج مرض ' خرف الشيخوخة المبكر او الزهايمر'.
 
النتائج الأولية اثبتت نجاح العقار الجديد وبدأت علامات الزيادة في نسبة الذكاء لدى القردة بالظهور. لكن سرعان ما تبين ان له اثارا جانبية خطيرة، فمع زيادة الذكاء زادت نسبة العدوانية لديهم وكان الحل الوحيد هو التخلص من كل القردة التي اجريت عليها التجارب بقتلها. وهو ما حدث بالفعل باستثناء وحيد وهو قرد وليد وضعته امه قبل ان يتم الخلاص منها بقليل ولم يستطع الشخص المسؤول قتله لشدة تأثره فأحضره الى العالم صاحب براءة اختراع العقار ليأخذه معه لمنزله. 
 
نحن الان بعد عشر سنوات من تلك التجارب والتي كانت احدى نتائجها الكارثية انتشار فيروس ' إنفلونزا القردة' القاتل. سكان المستعمرة في سان فرانسيسكو لديهم مشكلة ملحة لابد من حلها، فقد أصيبت شبكة الكهرباء التي تمد مستعمرتهم بالطاقة بعطل ولابد لهم من إصلاح سد مولد للكهرباء وإلا باتت حياتهم مستحيلة،  وايضاً ليتمكنوا من الاتصال بالعالم الخارجي طلبا للمعونة والإنقاذ. في اول مهمة لإصلاح السد يصطدم الفريق الفني بخطر داهم حين يتعرضون لهجوم من بعض القردة فيضطر احد أعضاء الفريق لقتله دفاعا عن النفس لكن القتل يجلب عليهم خطرا اكبر فيجدون أنفسهم محاصرين بمئات القردة الذين يسكنون مستعمرة خاصة بهم لم يكن البشر يعلمون شيئا عنها بالمرة. 
 
المستعمرة تضم عددا من القردة التي تتمتع بذكاء غير عادي ولديها قدرات تحاكي قدرات البشر وبينها التحدث وركوب الخيل والقتال بأسلحة يصنعونها بأنفسهم. في مقدمة هؤلاء زعيمهم ' سيزر' ( آندي سيركيس)، القرد الذكي بطل الفيلم السابق والذي قاد ' ثورة' القرود على سجانهم وانطلقوا جميعا الى الأدغال ليؤسسوا تلك المستعمرة ويعيشون في سلام ووئام بمنأى عن البشر. الى جانب ' سيزر' نلتقي بعدة قردة ذات شخصيات مكتملة دراميا بينها زوجته وابنهما  وصديقه ' آش' ونائبه ' كوبا'.
 
وقائع هذه الدراما الحيوانية مقدمة لنا بلغة تمثيلية معبرة وصادقة تعتمد لغة الإشارة للحوار بينهم مصحوبة بترجمة على الشاشة. وهذا واحد من اهم إنجازات الفيلم فنيا ودراميا.
 
يتدخل ' سيزر' لإنقاذ الموقف فيأمر رفاقه بالكف عن مهاجمة الفريق البشري بعد ان يتلقى منهم وعدا بعدم العودة الى مستعمرتهم أبدا. هذا الموقف لا يروق ' لكوبا' ( توبي كيبل)، نائب ' سيزر' ويعتبره ضعفا منه في مواجهة البشر، وفي الوقت نفسه يوقظ بداخله تنافسا قديما بينهما على الزعامة فيضمر له شرا ويبدأ بالعمل على إزاحته.
 
في مقابل هذا الصراع داخل مستعمرة القردة، ينشأ صراع داخل مستوطنة البشر حين يعود الفريق من مهمته دون إنجازها. يحاول المهندس قائد الفريق ' مالكوم' (  جاسون كلارك) إقناع الزعيم المسؤول عن إدارة المستوطنة ( غاري أولدمان) بضرورة الذهاب مجددا للتحدث الى زعيم القردة لإقناعه بحاجتهم الماسة لإصلاح محطة توليد الطاقة. لكنه يواجه معارضة شديدة من المسؤولين غير المقتنعين أصلا برواية القردة الذكية التي تتكلم لغة البشر. الا انهم يقبلون صاغرين لحاجتهم الماسة للطاقة، وفي نفس الوقت يعدون العدة لاحتمال مهاجمة مستعمرة القردة اذا ما فشلت المهمة ولم يعد الفريق الفني بعد ثمان وأربعين ساعة.
 
بالفعل ينجح ' مالكوهم' في إقناع ' سيزر' بالسماح لهم بإصلاح محطة الطاقة ولكن بشرط أساسي هو مصادرة كل الأسلحة التي بحوزتهم ليأمنوا شر البشر. ويساهم ذلك في تبديد أزمة الثقة بين الجانبين الى حين، خاصة بعد ان تتدخل زوجة ' مالكوم' ( كيري رسل)، لإنقاذ حياة زوجة ' سيزر' من حمى إصابتها بعد إنجابها قرد جديد وتعالجها بمضادات حيوية. هذا التقارب وعودة الثقة بين الطرفين يزيد من حنق ' كوبا' وحقده وصغينته ضد ' سيزر' فيقدم على قتله في خضم احتفالات المستعمرة مع الفريق الفني بإصلاح محطة الطاقة وعودة الأضواء الى المدينة. فور سقوط ' سيزر' مضرجا في دمائه ببندقية سرقها ' كوبا' من اثنين من حراس المستوطنة البشرية بعد ان قتلهما، يندفع في صراخ محموم لإثارة جموع القردة ملوحا بالبندقية كدليل دامغ على دموية البشر غير الجديرين بالثقة، ويقوم بحشدهم تحت قيادته لمهاجمة البشر انتقاما لزعيم القردة المغدور. وتندلع الحرب بين الجانبين.
 
الصراع الأزلي بين الخير والشر
 
يتبع الفيلم في خطوطه العريضة عناصر الحبكة التقليدية لأفلام الاكشن المطعمة بعناصر الخيال العلمي التي تبرع هوليود في صنعها. فنحن امام نموذج للصراع الأزلي بين الخير والشر، بين الأخيار والأشرار الذي يحتدم بينهما وصولا الى معارك دموية بين عالم الحيوان ممثلا في مملكة القرود، وعالم البشر الذي لا يتورع عن استخدام الحيوانات في تجارب غير رحيمة فينقلب الامر عليهم بانتشار وباء إنفلونزا القردة القاتل.  صراع الخير والشر هذا يقابله صراع مماثل داخل كل معسكر. ' سيزر' قائد مستعمرة القرود وحكيمهم يبذل كل ما في وسعه لتجنب الحرب مع البشر لانه يعلم كم ستحصد ضحايا من القردة، ويحاول إقناع رفاقه واتباعه وفي مقدمتهم ' كوبا' ان الحرب ستقضي على كل ما حققوه من حياة أمنة مستقرة لبني جنسهم وعلى مستقبل مماثل لذريتهم. وفي الجانب البشري هناك الغالبية التي لا تؤمن أصلا بإمكانية التعايش مع القردة وان الحل الوحيد هو القضاء عليهم. وهو ما يعارضه بشده ' مالوكم' وزوجته التي فقدت ابنة لها بسبب الوباء، لكنهم مقتنعون ان تجارب البشر هى التي جلبت هذا الوبال عليهم.
 
بين دعاة السلام من ناحية وقارعي طبول الحرب من ناحية اخرى يبث الفيلم رسالته الأخلاقية الهامة، مؤكدا على ان سوء الفهم والأحكام المسبقة او الجاهزة ( خاصة لدى البشر حيال من يختلف معهم في الجنس او العرق او اللون) تؤدي حتما الى انعدام الثقة وشحن النفوس بالضغائن وسيل من المشاعر العدوانية التي يمكن ان تدفع الجميع لآتون الحرب نتيجة لأقل الأخطاء. يؤشر الفيلم في مشاهد عديدة الى مصاعب السلام وأهوال الحرب، الى مخاطر القيادة وسوء الفهم والاحكام  المسبقة وشيطنة الأعداء والخصوم.
 
الرسالة الأعمق
 
اما الرسالة الأعمق للفيلم فتتجلى من خلال تجسيد الصراع بين البشر والقردة بوجه خاص. فمشاعر الحب والكراهية والغيرة والحسد والحقد، والابوة والأمومة والرغبة في العيش الأمن وتكوين أسرة ومجتمع مسالم يشبع حاجات أفراده يجيدها الفيلم بنفس الدرجة تقريبا لدى عالمي القردة ( الحيوان بشكل عام) والإنسان.
 
في مشهد بليغ في الفيلم يقول ' سيزر' عن ' كوبا' انه لم يتعلم من البشر سوى شئ واحد: الكراهية. وهذا مجرد مثل واحد على أوجه الشبه بين العالمين حين ينظر كل منهما للآخر على انه تجسيد للشر المطلق ويرفض متعامدا ان يرى الشر الكامن بداخله. نحن في العالمين، في الحقيقة، نشبه بعضنا البعض بأكثر ما يحلو لنا ان نقر ونعترف.