رحيل آخر الحرافيش توفيق صالح

كتبت: أريج عراق كان الخبر صادماً بالنسبة لي، فتوفيق صالح كان ولا يزال قيمة فنية كبيرة، تعلمنا منه الكثير رغم قلة أعماله. وتذكرت على الفور لقائي به - لحسن حظي - قبل سنوات، وأخذت استرجع كل تفاصيل هذا اللقاء، بدءا من الابتسامة الهادئة التي لا تفارق وجهه، إلى البساطة التي يتعامل بها ولا تؤثر على ذلك الشموخ الذي يطل قوياً من نظرات عينيه، وحتى استفاضته في الكلام من دون حواجز، ولم يسعني وأنا أتذكر كل هذا إلا أن أهمس لنفسي بأسى شديد "ألا رحمه الله .. إنه آخر الحرافيش". ولد توفيق صالح في مدينة الإسكندرية في 27 أكتوبر 1927، والإسكندرية لمن لا يعرفها، هي درة العقد في مدن مصر، وأكثرها جمالا وتميزاً، وأحد مراكز الإشعاع الحضاري على ساحل المتوسط بأكمله لأكثر من ألفي عام، وهي التي أخرجت إلى جانب توفيق صالح، كلا من شادي عبد السلام ويوسف شاهين ومحمود مرسي وعمر الشريف وغيرهم الكثر. كان والده طبيباً يعمل في الحجر الصحي بالموانئ، وكانت والدته فلسطينية، درس وتعلم في مدرسة فيكتوريا الشهيرة، حيث كان زميل دراسة ليوسف شاهين، ثم درس الأدب الإنكليزي في جامعة فاروق (جامعة الإسكندرية) وتخرج في عام 1949، ثم ذهب بمصادفة عجيبة إلى فرنسا في بعثة لدراسة السينما بجامعة السوربون، وهناك عمل كمساعد مخرج في أكثر من فيلم كان أولها فيلم صحبة فرح، ثم عاد بعدها إلى القاهرة ليبدأ المرحلة الأهم في حياته. كان الحدث الأهم بعد وصول توفيق صالح إلى القاهرة، هو لقاؤه بالروائي المصري العالمي نجيب محفوظ، ويقول صالح عن بداية علاقته بمحفوظ: "من الطريف أنه قبل سفري إلى باريس قمت بشراء مجموعة من الكتب ومن ضمنها كتاب اسمه “القاهرة الجديدة” ظننت فى البداية أن كاتبه مهندس تخطيط فتركته واشتريت كتابا آخر وحين عدت من باريس كان اسم نجيب محفوظ لامعا فى مجال السيناريو فأنا عرفته كسيناريست قبل أن أقرأه كروائي". ثم بدأ يحضر له ندوته الأسبوعية في كازينو صفية حلمي كل يوم جمعة، لتتوثق العلاقة بينهما وتتحول إلى صداقة حقيقية دامت أكثر من خمسين عاماً، وبدأت بكتابة سيناريو "درب المهابيل"، عندما قدم صالح المعالجة التي جهزها لمحفوظ ليسأله عن رأيه فيها، وكانت تحت عنوان "وعلى الأرض السماء"، إلا أن محفوظ قال له أن المعالجة بهذا الشكل ستمثل خطورة عليه، وأخذها منه ثم أعادها إليه في شكل سيناريو "درب المهابيل"، وهو الفيلم الوحيد الذي تعاونا فيه معاً. ولم يقدم محفوظ أي سيناريو بعدها لتوفيق، كما لم يحاول توفيق أن يقدم أي من روايات محفوظ للسينما. وعندما سألته أي من روايات نجيب محفوظ كان يتمنى أن يقدمها للسينما، أجاب من دون تردد "ثرثرة فوق النيل"، معتبراً إياها الرواية الأقرب إلى قلبه. كما يذكره مجموعة الأصدقاء بها، بمجموعة الحرافيش التي كانت تجمعه مع نجيب محفوظ وأحمد مظهر والروائي عادل كامل والمخرج الكبير صلاح أبو سيف، وغيرهم ممن يأتون ويذهبون، بينما هؤلاء هم الأساس. قدم توفيق صالح للسينما المصرية خمسة أفلام طويلة، هي "درب المهابيل 1955"، "صراع الأبطال 1962"، "المتمردون 1966"، "السيد البلطي 1967" عن رواية لصالح مرسي، و"يوميات نائب في الأرياف 1968" للكاتب الكبير توفيق الحكيم، بالإضافة لفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق هو فيلم "المخدوعون 1972" عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، وفيلم آخر في العراق هو فيلم "الأيام الطويلة 1980"، وهو آخر ما قدم للسينما، إلى جانب مجموعة من الأفلام القصيرة والتسجيلية. أما السمة الغالبة في أعمال توفيق صالح فهي رؤيته العميقة وتحليله الاجتماعي القوي، ورغم تصريحه أكثر من مرة أنه لا يهتم بجماليات الصورة على حساب الموضوع، إلا أن الحقيقة أن تكوينه لكادر الصورة كان شديد التميز، ورغم قسوة الموضوعات التي يختارها، إلا أنه حافظ على رؤية تشكيلية جمالية رائعة، كانت طابعاً أساسياً في كل أفلامه، ما جعل أربعة منها تدخل ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في القرن السينمائي الأول في مصر، وهي أعلى نسبة تمثيل لمخرج، بعيداً عن قلة العدد. رحم الله المخرج الكبير، ورحم معه زمناً رائعاً ولى، ولم يترك لنا سوى نفحات من ذكريات، تمر على الخاطر فتترك على الوجه ابتسامة، وفي القلب حسرة.