عناوين الأفيشات تفرض شروطها: بين مراوغة فيلم "الست" ونرجسية مسلسل "درش"
العنوان في عالم الدراما هو أول تعارف مع مضمون العمل، وعدًا خفيًا بما سيأتي. ليس مجرد كلمات على ملصق، بل حروف تخلق صورة افتراضية وتوقعات درامية. ومع ذلك، في السينما والدراما المصرية، خاصة في سباق رمضان، نرى ظاهرة غريبة: أغلب العناوين تتحول إلى أسماء شخصيات، كأن العمل نفسه ينحني راضخًا أمام نجم واحد. العناوين تبني عوالم أو تهدمها، تتلون بين سحر الرمز وسخرية الاختزال، فالعنوان هو مرآة لفلسفة كتاب الدراما، وأحيانًا، دليل على كسلهم.
"عباس"، "درش"، "بيبو"، "نرجس"، "عاليا"… هذه عناوين بعض مسلسلات رمضانية قادمة، تصلنا كأنها نداء في غرفة مزدحمة، لا نعرف من صاحبه، ولا لماذا ينادينا.
أسماء المسلسلات والكنافة
يطل رمضان 2026 برأسه، وكأن الدرس لم يُؤخذ، فالظاهرة تتكرر بإصرار يثير الدهشة. عناوين مثل "عباس" لعمرو سعد، "علي كلاي" لأحمد العوضي، "درش" لمصطفى شعبان، "المتر سمير" لكريم محمود عبد العزيز، كلها عناوين توحي بأعمال عن شخصيات ذكورية تحتل الشاشة بطلتها وشخصياتها وصوتها العالي، على الضفة المقابلة هناك "الست موناليزا" لمي عمر، "عاليا" لغادة عبد الرازق، وغيرها كـ"مناعة" بطولة هند صبري، أو "حكاية نرجس" بطولة ريهام عبد الغفور، حيث يُختزل العمل في اسم الشخصية الرئيسية كأنها تقول بصراحة: "هذا المسلسل عن النجم، والنجم هو كل شيء!". استثناءات قليلة كـ"المداح: أسطورة النهاية" أو "فن الحرب" تضيف لمسة رمزية، لكن الغالب يستسهل، يُشير مباشرة للبطل كلقب شعبي أو اسم يُبرز الشخصية.

هذا الأسلوب دليل على استهداف جمهور استهلاكي، يرى الدراما بنصف اهتمام، بين الإنشغال بمتابعة بهرجة فقرة الإعلانات التجارية الطويلة وتناول قطعة الكنافة الشهية، يضع عبئًا هائلًا على النجم ليبقى بارزًا طوال الحلقات، أداؤه فاقع وزاعق ليخرق طبلة الأذن بصوته الخشن الجهوري، والكاتب يُجبر على الدوران حول شمس واحدة، يُعامل البطل كأسطورة لا تُمس. ربما أظلم مسلسل "درش"؛ فالمبرر الوحيد لقبول عنوانه أن يكون سيرة شخصية للممثل مصطفى شعبان نفسه!

رمزية وغموض
العنوان، هدفه ليس مجرد الدعاية، بل إثارة عاصفة داخلية، جسر رقيق يربط بين خيال الكاتب وتوقعاتنا. في أجمل لحظاته، يصبح لغزًا يدعو للتعمق. عنوان فيلم "الست" عن أم كلثوم؛ يحمل حنانًا شعبيًا، يُعد لسيرة أسطورية، لكنه أيضًا يشير بذكاء مُراوغ إلى مضمونه، وهو تناول سيرة المرأة - وليس الأيقونة - في حياتها اليومية، مخترقًا جدار التقديس الذي بناه الإعلام وحرسه الجمهور، نعم الأسطورة موجودة داخل الهيكل البشري، لكن الفيلم يسبح ضد تيار الرواية الرسمية للشخصية التاريخية. وهذه ميزته الأهم.
كالساحر الذي يختار تعويذته بعناية، يتنوع أسلوب كتابة العنوان. هناك الرمزي الشاعري، كـ"ثرثرة فوق النيل"، يرسم صورة لمجتمع يغرق في الثرثرة الفارغة، مزاياه في إثارة التأمل، وعيبه أنه قد يبدو غامضًا لمن يبحث عن السهل. ثم المتمرد الجريء، كـ"لن أعيش في جلباب أبي"، يعلن تفرده الشخصي واستقلاله عن الماضي، قوي في وضوحه، لكن من شاهد العمل سيجد الأب عبد الغفور البرعي وجلبابه هما محور العمل.

النجم يزأر
العنوان الجيد لا يشرح نفسه، لكنه لا يصمت أيضًا. هو جملة ناقصة عمدًا، تفتح شهية المتلقي على المعنى، وتدعوه لاكتشاف ما خلف الكلمات. لكن حين يصبح العنوان مجرد اسم شخص، بلا إضافة، بلا سياق، بلا دلالة رمزية، فهو يفعل العكس تمامًا: يغلق الباب بدل أن يفتحه.
في كثير من الحالات، لا يكون اختيار اسم البطل عنوانًا قرارًا إبداعيًا بقدر ما هو قرار تسويقي متخفٍ. العنوان هنا لا يروّج للعمل، بل للنجم نفسه. كأن الاسم يقول: لسنا بحاجة لفكرة… لدينا بطل. وفي عالم مواز، يبرز أسلوب الاسم الشخصي كضيف ثقيل: "فهد البطل" أو "حكيم باشا"، يُعلن العمل أن البطل سوبر هيرو شعبي، يُختزل العالم في شخصية واحدة، يصرخ العنوان: المسلسل هو البطل، والبطل هو المسلسل! عيبه في تحويله الدراما إلى عرض زاعق، حيث يُطالب النجم بالصراخ كالأسد في كل مشهد، والكاتب بإعادة تدوير فكرة "الشجاع الأسطوري". هذا الاختزال كسول، يُشبه نسخة رخيصة من السوبر هيرو، يُهمل الشخصيات الثانوية، ويضع عبئًا هائلًا على النجم ليبدو بارزًا دائمًا. سخرية الواقع أن يصبح العنوان دليل ضعف، لا قوة، كأن الصانع يقول: "لا داعي للتفكير، فقط شاهد النجم يزأر!".

بين العمق والعبثية
في السينما المصرية، كانت "الأرض" هي العنوان رغم بطولة أبو سويلم، الشخصية الأيقونية التي جسدها محمود المليجي، العنوان يحمل ثقل التراب المصري، يُلخص معركة الفلاحين ضد الاستغلال، أيضًا "دعاء الكروان"، ذلك العنوان الشاعري المستمد من صوت الطائر الذي يبكي في الليل، يعكس حزن الفتاة الريفية "آمنة" وثأرها في عالم الصعيد القاسي، مزاياه في عمقه العاطفي الذي يدعو للتأمل. وكان من الممكن أن يحمل الفيلم اسم شخصية البطلة لتأطير نجومية فاتن حمامة لو فكرنا بمنطق هذه الأيام.
لاشك هناك أسماء أعمال حملت أسماء الشخصيات لأسباب درامية مقبولة، "البحث عن سيد مرزوق" لداود عبد السيد، عنوان يدور حول شخصية غامضة متعددة الوجوه يجسدها الممثل علي حسنين، يُشبه رحلة بحث عن ذات، لكنه يُختزل في اسم "سيد مرزوق" كرمز للتناقضات، ولم يحمل الفيلم اسم شخصية البطل يوسف التي أداها نور الشريف، فالعنوان يشير إلى شخصية تحمل أهمية في مضمون الدراما، ولا يروج للنجم بطل العمل.

شركات الإنتاج وجدت أن اسم إسماعيل ياسين كافٍ، على الأفيش للترويج لأفلامه، طُمست المسافة بين الممثل وشخصياته، والطريف أنه حينما أنشأ فرقته المسرحية لم يُطلق اسمه على عنوان أي من مسرحياته، في حين وضعت عناوين بعض أفلام نجيب الريحاني اسم الشخصية داخل سياق الحدوتة، مثل "سي عمر" الشخصية المرموقة التي انتحلها البطل الفقير، "سلامة في خير" يطمأن الجمهور أن الشخصية – رغم الصعاب التي يواجهها – في أمان درامي.
الاسم أهم من القصة
في النهاية، ليست المشكلة في الأسماء نفسها، ولا في بساطتها، ولا في شعبيتها. المشكلة في ما تعكسه كثافة استخدامها: رغبة في اختزال العمل في شخص، والدراما في نجم، والحكاية في اسم لامع. وهو اختزال مريح، لكنه خطير. العنوان ليس مجرد اختيار لغوي، بل موقف فني. وحين نختار الاسم وحده، فنحن نعلن – دون قصد – أن الفكرة أقل أهمية من صاحبها.
هل نبحث عن عنوان يفتح باب الحكاية؟ أم عن اسم يكفي ليملأ الأفيش؟
حين يُطلب من الممثل أن يملأ فراغ عمل يحمل اسم بطله، يُلقى على كاهل الممثل عبء غير مكتوب: أن يبرر العنوان في كل مشهد، لا مجال للهدوء، ولا مساحة للصمت، ولا رفاهية للأداء الداخلي. يجب أن يكون حاضرًا دائمًا، لافتًا دائمًا، عاليًا دائمًا. فتظهر أعراض مألوفة في الدراما: الصوت المرتفع كبديل للتعبير، والانفعال الزائد كتعويض عن عمق مفقود، والاستعراض المستمر كإثبات وجود، لا فرق في هذا بين "محمد رمضان"، "أحمد العوضي"، "مصطفى شعبان"، "غادة عبد الرازق"، "مي عمر"، أو "عمرو سعد" وغيرهم. ليس لأن هؤلاء النجوم لا يجيدون غير ذلك، بل لأن العنوان وضعهم في مواجهة مباشرة مع المتفرج: أنت العمل… أقنعنا.
