
خاص لـ"هي": وئام كفيه وفاطمة المدني… بين التوثيق والاستدامة تحفظان هوية جدة
جدة هي فضاء معماري وثقافي حي، يحمل بين أحيائه القديمة ومبانيه الحديثة قصة مجتمع بأكمله. ومن هذا الإرث انطلقت مبادرة "عمارة جدة"، تقودها المعمارية وئام كفيه والمصممة الداخلية فاطمة المدني، لشغفهما بتوثيق الهوية المعمارية وحفظ روح المدينة بين الماضي والمستقبل.
من هما وئام كفيه وفاطمة المدني؟
تقدّم وئام نفسها قائلة: "أنا وئام كفيه، معمارية سعودية متخصصة في العمارة البيئية والمستدامة. أعمل اليوم في مجال التصميم المعماري، وأنا شريكة مؤسسة لشركة Bio Design للتصميم والأبحاث في تقنيات البناء المستدام، كما أنني شريكة في مبادرة عمارة جدة. خبرتي تمتد عبر مشاريع متنوعة، لكن شغفي الأكبر يتمحور حول الاستدامة وحفظ الذاكرة المعمارية للمدن."

أما فاطمة فتعرّف عن نفسها بالقول: "نشأت في مدينة جدة وأعمل كمصممة داخلية محترفة منذ أكثر من 14 عامًا، عبر مكتبي ’معمور للتصميم الداخلي‘ المتخصص في المشاريع التجارية والإدارية. أركز في عملي على تجربة المستخدم داخل الفراغات، وأعتمد على إشباع الحواس الخمسة لإثراء التجربة."
الدافع وراء التوثيق
تروي وئام بداية رحلتها: "بدأ اهتمامي بتوثيق المباني في جدة خلال دراستي للعمارة، حين لاحظت أن المناهج الأكاديمية لا تتناول تاريخ العمارة المحلية أو المباني الحديثة. كنت أمر يوميًا بجوار خزان خُزام وأتساءل عن تاريخه وطريقة بنائه وما يمثله في ذاكرة المدينة. مع الوقت، أدركت أن المباني تختفي بسرعة، وأن غياب التوثيق يعني فقدانًا دائمًا للذاكرة العمرانية. من هنا بدأ شغفي الذي تحول إلى مسؤولية."
وتضيف فاطمة من جانبها: "منذ طفولتي كنت مولعة بالتاريخ، لكن في عام 2018 شعرت أن مدينتي جدة هي الأولى بأن أبحث في تاريخها. بدأت مع مبنى أمير البحار في حي البغدادية، حيث كثرت القصص غير الموثقة عنه، عندها اقتنعت بضرورة جمع المصادر الصحيحة وإنشاء منصة توثيقية. تلك الخطوة كانت بداية شراكتي مع وئام، حيث جمعنا شغف واحد."
العمارة والذاكرة الجمعية
تشرح فاطمة رؤيتها: "العمارة في جدة ليست مجرد بناء، بل نسيج حي يحكي قصة زمن ويحفظ أسرار الأجيال. البيوت القديمة والأحياء التاريخية أشبه بأرشيف متنقل، تحمل عبق الماضي وأناقة الحاضر. كل زاوية تعكس هوية فريدة، والعمارة هنا مرآة للذاكرة الجمعية، جسر يربط الأحبة والأجيال."

بينما ترى وئام أن جدة تميزت بخصوصية معمارية واجتماعية فريدة تقول: "المباني ارتبطت دائمًا بأسماء العائلات التي سكنتها أو أسستها. حتى بعد هدم سور جدة عام 1947 استمر هذا التقليد. إلى جانب ذلك، تخطيط المدينة اعتمد على الدوارات والمنحوتات العامة كعلامات بصرية. "
وتكمل الحديث:" دوار النورس، دوار الكرة الأرضية، ودوار السفينة أصبحت أيقونات حضرية. مشروع ’تجميل جدة‘ بقيادة محمد سعيد فارسي في السبعينات جمع أكثر من 600 عمل نحتي لفنانين عالميين مثل هنري مور، خوان ميرو، ألكسندر كالدر، إلى جانب أسماء سعودية مثل صفية بن زقر وعامر عبدالله. هذا التزاوج بين الفن والعمران جعل من جدة متحفًا مفتوحًا تحت السماء."
التوثيق بين العمارة والقصص الإنسانية
توضح وئام مقاربتها للتوثيق قائلة: "لا أتعامل مع المبنى كمجرد كتلة خرسانية، بل ككائن يحمل ذاكرة. كل تفصيلة معمارية تعكس ثقافة المجتمع واحتياجاته. لذلك أوثق المبنى كما أعيشه وأشعر به، لا كما هو على الورق."
وتكمل فاطمة الحديث بالأرقام تقول: "قمنا بتوثيق 100 مبنى متنوع الاستخدامات بين السكنية والتجارية والصحية والفندقية، باستخدام البحث الأكاديمي، التصوير الفوتوغرافي، والروايات الشفهية. من أبرزها مبنى رجب التجاري 1980 من تصميم Studio Sessanta5، وعمارة الملكة التي صممها Atelier Joseph Philippe Karam بارتفاع 27 طابقًا، ومركز أدهم التجاري الذي نفذه Atelier Antoine Romanos. هذه المباني تمثل مرحلة ذهبية في عمارة جدة الحديثة."
أصعب المباني التي واجهتهن
تتذكر فاطمة أبرز التحديات بقولها: "من أصعب التجارب توثيق مبنى فندق خوجة السكني في حي الكندرة، لندرة المصادر المتاحة عنه. لم نجد له أثرًا في محركات البحث أو وسائل الإعلام، فاعتمدنا على التصوير الميداني وبعض التعاميم والمعلومات في صالة الاستقبال. وما زلنا نبحث عن مزيد من البيانات لإكمال الصورة. كذلك مبنى سمير المعروف بمبنى كودك، المملوك لعائلة الهندي. حاولنا التواصل مع موظفي الاستقبال لكن دون جدوى، إلى أن التقيت بأحد أبناء العائلة الذي رحب بنا وأرسل لنا المعلومات التي كنا نبحث عنها."

من المبادرات الفردية إلى المشاريع الوطنية
تؤكد وئام: "الجهود الفردية ضرورية لكنها محدودة. لا بد أن تتحول إلى مشروع وطني مؤسسي. تأسيس هيئة العمارة والتصميم لمركز توثيق العمارة خطوة مهمة لجمع الأرشيف البصري والتاريخي. إدماج الجامعات والمراكز البحثية يعزز من استمرارية الدراسات، وإشراك الفنانين والمصورين عبر برامج مدعومة يحوّل هذه الجهود إلى مشاريع ثقافية مستدامة. الأهم أيضًا أن يدخل التوثيق في المناهج التعليمية ليكوّن وعيًا جديدًا لدى الأجيال."
كيف ستكون جدة بعد 20 عامًا؟
تجيب فاطمة عن هذا السؤال بنبرة تحذيرية: "إذا لم نحافظ على مباني جدة القديمة وقصصها، ستتحول المدينة إلى فضاء حديث لكنه خالٍ من الروح. ستفقد هويتها، وتختفي الحكايات التي تميزها، لتصبح مجرد عمران بلا ذاكرة أو معنى."
رسالة إلى الشباب المعماريين
توجّه وئام رسالتها: "العمارة ليست مجرد مهنة، بل أمانة لحفظ الهوية. مسؤوليتكم أن توازنوا بين الإبداع المعاصر واحترام الماضي. أنتم صُنّاع المشهد العمراني القادم."
وتضيف فاطمة: "على الشباب أن يعرفوا تاريخ مدينتهم قبل أن ينظروا إلى الخارج. الماضي هو أساس الحاضر ومفتاح المستقبل. توثيق إرثنا واجب وطني وإنساني، يحفظ للمدينة روحها ويمنح الأجيال القادمة مصدر فخر وإلهام."
جميع الصور المستخدمة بإذن من المعمارية وئام