خالد الفيصل.. مسيرة ملهمة لأمير الثقافة وصوت الإبداع السعودي

خالد الفيصل.. مسيرة ملهمة لأمير الثقافة وصوت الإبداع السعودي

محمد حسين
5 أغسطس 2025

يُعد صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود، مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة، شخصية محورية في تاريخ المملكة الحديث، ليس فقط بصفته أميرًا وسياسيًا محنكًا، بل بوصفه رمزًا ثقافيًا وشعريًا وفنيًا نادرًا. طيلة عقود، شكّل سموه علامة فارقة في مسيرة النهضة الثقافية السعودية، مزاوجًا بين الشعر والإدارة، بين الحرف والسياسة، بين الإبداع والتخطيط الاستراتيجي، ليؤسس لنموذج متفرد يحتذى به في الوطن العربي.

جذور راسخة ومسيرة علمية رفيعة

وُلد الأمير خالد الفيصل في مكة المكرمة عام 1359هـ (1940م)، وهو الابن الثالث للملك فيصل بن عبدالعزيز، أحد أهم الملوك المؤسسين للمملكة. نشأ في بيئة تجمع بين العلم والسياسة، وتتلمذ على يد أبرز المعلمين، حيث بدأ دراسته في المدرسة الأميرية في الأحساء، ثم أكمل تعليمه الثانوي في مدرسة "HUN" في نيوجيرسي، قبل أن ينال درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصادية من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1966م.

مسؤوليات وطنية بدأت من الشباب

تولى الأمير خالد الفيصل أول مناصبه الحكومية مديرًا لرعاية الشباب عام 1387هـ (1967م)، حيث أطلق خلالها برامج غير مسبوقة لتطوير قطاع الشباب والثقافة. ثم تولى إمارة منطقة عسير لنحو 37 عامًا، ساهم خلالها في نقل المنطقة إلى مرحلة تنموية وثقافية متقدمة، قبل أن يُعيَّن أميرًا لمنطقة مكة المكرمة، ثم وزيرًا للتربية والتعليم، ثم يعود لاحقًا أميرًا لمكة، حيث لا يزال يُشرف على تطوير مشاريع استراتيجية كبرى، منها تنظيم مواسم الحج، وتحويل العاصمة المقدسة إلى مركز حضاري عالمي.

سيرة تتجاوز الألقاب خالد الفيصل كما عرفه المثقفون
سيرة ملهمة تتجاوز الألقاب للأمير خالد الفيصل 

الريادة في دعم الفنون البصرية: بين لوحات «دايم السيف» ومرتكزات الدبلوماسية الثقافية

منذ عام 1999، أطلق الأمير خالد الفيصل مبادرة "Painting & Patronage"، لتكون جسرًا للتواصل بين الشرق والغرب، وبين الفنانين العرب ونظرائهم في أوروبا. شكلت هذه المبادرة منصة عالمية للفنانين العرب لعرض أعمالهم في معارض عالمية، بدءًا من لندن وصولاً إلى الرياض، وكانت بمثابة رسالة فنية وثقافية عنوانها التفاهم الحضاري.

ولم يتوقف الأمير عند المبادرات الدولية، بل جعل من قصره في الرياض، قصر حطين، فضاءً فنيًا وأدبيًا بعنوان "بيت أفكاري". يحتضن هذا المعرض أكثر من 480 قصيدة كتبها سموه، و18 مؤلفًا توثق مسيرته الشعرية، إلى جانب لوحات رسمها بنفسه، عاكسة تأملاته العميقة في الطبيعة والإنسان والوطن.

كما أسهم سموه في تأسيس متحف الفيصل للفن العربي الإسلامي ضمن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، والذي يضم مقتنيات نادرة من المخطوطات، وأعمالاً فنية من العصور الإسلامية المختلفة، وقطعًا أثرية تتجاوز خمسة آلاف قطعة. يُعد المتحف اليوم مرجعًا للباحثين ومركزًا لإحياء الذوق الفني الإسلامي.

في تصريح لافت قال:

"الملهم الأكبر لي هي المملكة العربية السعودية بمناظرها الطبيعية الخلابة وشعبها الكريم. إن هدفي هو تعزيز قيم التعبير الفني من خلال الرسم، لأوضح رؤيتي ومشاعري لوطني."

أطلق الأمير في عام 1999 مبادرة "Painting & Patronage"، لتعزيز التفاهم بين الشرق والغرب عبر الفنون، وشهدت المبادرة تنظيم معارض في لندن، مدريد، وباريس، لتكون الفنون جسرًا للتواصل الحضاري لا السياسي فقط.

الأمير خالد الفيصل فنان تشكيلي صاحب موهبة استثنائية
الأمير خالد الفيصل فنان تشكيلي صاحب موهبة استثنائية

الشعر والثقافة: "دايم السيف" وحروفه التي لا تنكسر

باسمه الشعري "دايم السيف"، نسج الأمير خالد الفيصل قصائد لا تزال تتردد في القلوب قبل الآذان. تميز شعره ببلاغة نبطية، وصدق وجداني، وصور فنية تنبض بالحكمة والعاطفة. دواوينه مثل "ديوان النبط" و"إذا ما بقي..." هي أكثر من مجموعات شعرية؛ إنها سجلات وجدانية لمراحل فكرية ووطنية عاشها.

أسس سموه أكاديمية الشعر العربي في الطائف عام 2016، لتكون حاضنة للمواهب الشابة، ومنصة لتكريم رموز الشعر العربي عبر جائزة الأمير عبدالله الفيصل، والتي تمنح لأفضل شاعر، وأفضل مبادرة تعليمية في الشعر، وأفضل قصيدة مغناة. وصل مجموع الجوائز إلى 1.5 مليون ريال سعودي، ما يعكس حجم الاهتمام الرسمي والثقافي بالشعر.

وفي دراسة أكاديمية أعدتها جامعة طيبة، تبين أن أشعار الأمير خالد تُستخدم في المناهج التعليمية كوسيلة لتعزيز الهوية الوطنية، وترسيخ القيم الثقافية السعودية، وهي دليل إضافي على أثره التربوي في الأجيال الناشئة.

مؤسسات تصنع الوعي وتخدم المجتمع

لم يكتف الأمير خالد الفيصل بالأعمال الفردية، بل أسس مؤسسات تحمل رؤيته، مثل: مؤسسة الفكر العربي (2000): منصة غير حكومية للنقاش الثقافي والتكامل الفكري العربي، نظمت مؤتمرات "فكر" السنوية.

وكذلك مؤسسة الملك فيصل الخيرية: يشغل منصب مديرها العام، وهي من أبرز المؤسسات التنموية والتعليمية في العالم العربي بالإضافة إلى متحف الفيصل للفن العربي الإسلامي: يضم آلاف القطع الفنية والمخطوطات النادرة، ويمثل مركزًا مرجعيًا للفن الإسلامي.

كما يشغل عضوية مجلس أمناء معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت، ويرأس لجنة جائزة الملك فيصل العالمية، التي تُعد من أرفع الجوائز العالمية.

واحدة من اللوحات الفنية المميزة لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود
واحدة من اللوحات الفنية المميزة لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود

تمكين المرأة: ثقافة تنويرية تعزز الحضور النسائي

في عالم غالبًا ما كانت المرأة فيه على هامش المشهد الثقافي، منح الأمير خالد الفيصل للمرأة السعودية المساحة والشرعية الكاملة للإبداع والتأثير. دعم سموه مشاركة المرأة في كافة جوانب العمل الثقافي، من خلال المؤسسات التي يرأسها، ومنصات الفكر والحوار التي يرعاها.

أسهم في تأسيس برامج تعليمية وثقافية أتاحت للمرأة أن تبرز ككاتبة، فنانة تشكيلية، شاعرة، وقيادية ثقافية. ويرى أن تمكين المرأة ليس مجرد شعار، بل ممارسة فعلية تبدأ من التعليم ولا تنتهي عند التمكين المهني.

وتُظهر الساحة الثقافية اليوم حضورًا نسائيًا لافتًا في الشعر، الفنون، التصميم، والمسرح، وكلها مدعومة بشكل مباشر وغير مباشر من المبادرات التي أطلقها سموه أو رعاها.

اللغة العربية: لغة وهوية ومصير مشترك

إن أكثر ما يشغل الأمير خالد هو أن تظل اللغة العربية حية، نابضة، ملهمة. ولأجل ذلك، لم تخلُ قصيدة كتبها أو مبادرة أطلقها من الحضور اللغوي الأصيل. سموه يرى أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل وعاء للهوية، ومفتاحًا لفهم الذات والآخر.

في احتفال أقامته منظمة الإيسيسكو، قال الأمير خالد: "كرست حياتي لخدمة لغة القرآن"، وكانت هذه الجملة عنوانًا لمسيرة من العطاء. عمل سموه على تعزيز حضور اللغة العربية في المنصات الأكاديمية والثقافية، من خلال مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وتعاون مع مراكز مثل مركز أبوظبي للغة العربية.

ولم تكن جهوده لغوية بحتة، بل أيضًا فكرية. فهو يؤمن بأن اللغة لا تزدهر إلا في بيئة من الفكر والحرية والبحث العلمي، وهو ما ترجمه من خلال المؤتمرات، المبادرات البحثية، ودعم الترجمة إلى العربية.

ومكتبة عامرة باللوحات الفنية المميزة والكتب التي تنبض بحب الثقافة والفنون لدى الأمير خالد الفيصل
مكتبة عامرة باللوحات الفنية المميزة والكتب التي تنبض بحب الثقافة والفنون لدى الأمير خالد الفيصل

مؤسسات فكرية تشكل وعي الأمة

أسس الأمير خالد الفيصل مؤسسة الفكر العربي عام 2000، لتكون منصة غير حكومية للنقاش الحضاري، وتحديث الخطاب الثقافي، وتعزيز القيم العربية المعاصرة. ضمت المؤسسة نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، وعقدت مؤتمرات سنوية تحت شعار "فكر"، جمعت صناع القرار والمثقفين في مكان واحد.

كما يشغل سموه عضوية عدد من المؤسسات العلمية حول العالم، منها مجلس أمناء معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت. ويرأس لجنة جائزة الملك فيصل العالمية، التي تُعد من أرفع الجوائز العالمية في مجالات اللغة، الطب، الإسلام، والعلوم.

الثقافة كوسيلة للمواطنة والانفتاح

يرى الأمير خالد أن الثقافة ليست ترفًا، بل هي جزء لا يتجزأ من تكوين المواطن. ولهذا السبب، اهتم بتضمين القيم الثقافية في مشاريع التنمية، ورأى أن المواطنة تبدأ من الفخر بالهوية.

أطلق عددًا من المهرجانات، وشارك في المعارض، وشجع على الترجمة المتبادلة، والحوار بين الثقافات. الثقافة في رؤيته ليست جدارًا يعزل، بل جسرًا يربط.

كما أن سموه يربط دائمًا بين الفن والأخلاق، بين الشعر والالتزام، وبين الإبداع والوعي. وهذا ما يجعل كل مشروع يُطلقه يحمل طابعًا إنسانيًا ووطنيًا راسخًا.

خالد الفيصل.. شاعر “دايم السيف” وحارس التراث الوطني
خالد الفيصل: رائد الهوية الثقافية وصوت الإبداع السعودي

اللغة العربية... هوية ومصير في عيون الأمير خالد الفيصل

يرى سموه أن اللغة العربية هي القلب النابض للثقافة، وقد قال في إحدى المناسبات:

"كرست حياتي لخدمة لغة القرآن."

سعى من خلال المؤسسات والمبادرات إلى تعزيز حضور العربية، سواء في المناهج التعليمية، أو في المؤتمرات الدولية، أو عبر التعاون مع منظمات كـ"الإيسيسكو" و"مركز أبوظبي للغة العربية".

جوائز وتكريمات... محلية ودولية

نال الأمير خالد الفيصل العديد من الأوسمة، منها:

  • وشاح الملك عبدالعزيز (2019) بأمر من خادم الحرمين الشريفين.
  • وسام الأرز الوطني من لبنان.
  • وسام النهضة الملكي من الأردن.
  • وسام فرانسيس الأول ووسام السنت موريس والسنت لازاروس من أوروبا.
  • طابع بريدي تذكاري باسمه من البريد السعودي.
  • تكريم في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2018 كشخصية العام الثقافية.
  • تخليد اسمه في مركبة فضائية أطلقتها ناسا إلى المريخ عام 2003.
صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود بجوار إحدى لوحاته التشكيلية المميزة
صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود بجوار إحدى لوحاته التشكيلية المميزة

رجل دولة برؤية ثقافية استثنائية

إن مسيرة الأمير خالد الفيصل لا تختزل في منصب، ولا تُقاس بعدد المبادرات، بل تتجلّى في التأثير الثقافي العميق، في الأثر الذي تركه على الأجيال، وفي قدرته على الجمع بين الشعر والسياسة، بين الفكر والتنمية، بين الوطنية والانفتاح.

كل بيت شعر نظمه، كل مبادرة أطلقها، وكل مؤسسة أسسها، هي امتداد لرؤية ترى في الثقافة مشروعًا وطنيًا لا يُبنى إلا بالإبداع، ولا يستمر إلا بالفكر الحر.

سيرة تتجاوز الألقاب: خالد الفيصل كما عرفه المثقفون

في النهاية، لا يمكن اختزال مسيرة الأمير خالد الفيصل في لقب أو منصب. فهو شاعر، فنان، مفكر، وسياسي، لكنه قبل كل شيء، صاحب رسالة. رسالة تضع الثقافة في قلب المجتمع، وتُعيد الاعتبار للغة، وتؤمن بقدرة الفن على بناء الوعي.

كل مؤسسة أسسها، كل قصيدة كتبها، وكل لوحة رسمها، هي لبنة في صرح حضاري يتجاوز الجغرافيا، ويخاطب وجدان الإنسان العربي.

وإننا، في مجلة "هي السعودية"، إذ نحتفي بهذه الشخصية الملهمة، فإنما نعيد التأكيد على أن الرؤية الثقافية العميقة يمكنها أن تُضيء حاضر أمة، وتفتح آفاقها نحو مستقبل أكثر إشراقًا.