"السودة" حيث تعانق الجبال الغيوم وتتنفس الطبيعة سحرها الأبدي.. إليكم تجارب استثنائية لعشاق المغامرة
في جنوب المملكة، حيث تلتقي الجبال بالغيوم، وتغمر الضبابات الخفيفة القمم في عناقٍ أبدي، يقف منتزه السودة الوطني شامخًا فوق سلاسل جبال السروات كتحفة طبيعية تُجسّد الجمال البري في أبهى صوره. هنا، على ارتفاعٍ يتجاوز 3,000 متر فوق سطح البحر، يجد الزائر نفسه في عالمٍ مغاير تمامًا، تتبدّل فيه الألوان والأنفاس والضوء، وكأن الطبيعة قررت أن تُهدي الإنسان مساحة من الصفاء المعلّق بين الأرض والسماء.
السودة.. حيث يلامس الجبل الغيم
يقع المنتزه في منطقة عسير، على بُعد نحو عشرين كيلومترًا من مدينة أبها، ويُعد من أعلى النقاط في المملكة العربية السعودية. يتزيّن المكان بغابات كثيفة من أشجار العرعر التي تمتد على مدّ البصر، وتمنح الأجواء رائحة منعشة تملأ الصدر بنفَسٍ باردٍ ينعش الروح. هذه الغابات ليست فقط منظرًا خلابًا، بل نظام بيئي متكامل يحتضن طيورًا نادرة وكائنات جبلية تعيش في انسجام مع الطبيعة منذ قرون.

عند الصعود إلى السودة، تتغير المشاهد تدريجيًا: تبدأ الطرق من سفوحٍ خضراء تتخللها القرى الصغيرة، ثم تأخذك المنعطفات الجبلية إلى مشهدٍ ضبابي ساحر، حيث الغيوم تنساب بين الأغصان، وتبدو السيارات الصغيرة كأنها تسير فوق غلالة من القطن الأبيض. في لحظات، يمكن أن يحجب الضباب كل شيء، لتجد نفسك وسط صمتٍ يليق بالمكانة العالية لهذا الجبل.
منتزه يجمع بين الطبيعة والهوية
لا تقتصر روعة السودة على مشاهدها الطبيعية، بل تمتد إلى كونها جزءًا من الهوية الجنوبية الأصيلة، إذ تُعد القرية المحيطة بالمنتزه نموذجًا للحياة الجبلية القديمة في عسير، حيث البيوت الحجرية ذات النوافذ الخشبية الملوّنة، والمزارع الصغيرة التي تنحدر على المدرجات الجبلية، والأسواق الشعبية التي تعبق بروائح البن والعسل واللبان.
في كل زاوية من السودة، يمكن للزائر أن يشعر بنبض الحياة البسيطة المتناغمة مع الجبل، وأن يكتشف كيف استطاع الإنسان منذ مئات السنين أن يتكيّف مع الطبيعة دون أن يُفسد جمالها.
وقد حظي المنتزه بعناية خاصة ضمن مشروع السودة للتطوير، أحد المشروعات الوطنية الكبرى التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ليكون وجهة سياحية عالمية ترتكز على البيئة والطبيعة والثقافة المحلية. وتُعد السودة اليوم إحدى أبرز مناطق الجذب السياحي في المملكة، خصوصًا خلال فصل الصيف حين تتحول الجبال إلى ملاذٍ باردٍ للباحثين عن نسمةٍ عليلة وهروب من حرارة السهول.

تجربة التلفريك.. رحلة في سماء عسير
من أكثر التجارب إثارة في السودة هي ركوب التلفريك الذي ينقل الزوار بين قمم الجبال عبر مسافة تمتد لعدة كيلومترات فوق الوديان السحيقة. إنها تجربة تجمع بين المغامرة والتأمل، تمنحك مشهدًا بانوراميًا مذهلًا يصعب وصفه بالكلمات.
من هناك، تبدو قرى عسير كأنها لوحات منمنمة بين الجبال، والممرات الضيقة تتحول إلى خيوط فضية تمتد عبر الغابات. وفي الأفق، يمتد البحر الأحمر كوميضٍ بعيدٍ خلف الأفق الغائم.
تستغرق الرحلة دقائق قليلة، لكنها كافية لتمنح الزائر إحساس الطيران الحر فوق الطبيعة، ومشهدًا لا يُمحى من الذاكرة.

المشي بين الغابات.. نزهة في عالم من الضباب
يُعد المشي بين غابات العرعر واحدة من أروع التجارب التي يمكن خوضها في منتزه السودة الوطني. فالممرات الجبلية هنا تتلوى كالأغصان بين المنحدرات، وتُتيح للزائر فرصة استكشاف الطبيعة على مهل.
خلال المسير، يسمع المرء أصوات الطيور المحلية، وخرير المياه التي تنساب من الينابيع الصغيرة، ورائحة الأرض الرطبة بعد تساقط الضباب. كل خطوة في هذه الغابات هي تأمل صامت في كرم الطبيعة، وكل منعطف يفتح أفقًا جديدًا من الجمال.
ولعشاق الرياضة، أُنشئت في السنوات الأخيرة مسارات خاصة للمشي الجبلي (الهايكينغ)، تتدرج في صعوبتها لتناسب جميع الأعمار، وتُتيح تجربة ممتعة تجمع بين النشاط البدني واكتشاف تفاصيل الحياة البرية في أعالي عسير.

السكن والمخيمات.. ليلٌ يهمس بالسكينة
الإقامة في السودة تجربة بحد ذاتها. يمكن للزائر أن يختار بين المنتجعات الجبلية الحديثة التي تطل على مشاهد بانورامية ساحرة، أو المخيمات البيئية التي تمنح الزائر تجربة أكثر قربًا من الطبيعة.
الليل في السودة له طابع خاص؛ الهواء البارد يملأ المكان، والغيوم تنخفض حتى تلامس الأرض، والنجوم تظهر خافتة بين الغيوم. يجلس الزوار حول النار، يحتسون القهوة العسيرية ويستمعون إلى حكايات الجبل التي يتناقلها أهل المنطقة.
في تلك اللحظات، يصبح الزمن بطيئًا، وتغدو الطبيعة أكثر قربًا من القلب، وكأنها تُعيد ترتيب أفكار الزائر في سكونها العميق.

رحلات القرى التراثية.. لقاء مع الجذور
من السودة، يمكن الانطلاق في رحلات قصيرة إلى القرى التراثية القريبة مثل رجال ألمع، التي تُعد من أجمل القرى التاريخية في المملكة، والمُدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
الطريق إليها بحد ذاته مغامرة، يمر بين الجبال والوديان، ويكشف عن مناظر طبيعية متبدلة من الأخضر الداكن إلى الذهبي الجبلي.
وفي القرية، يمكن للزائر أن يتجول بين الأزقة الحجرية الضيقة، ويزور المتاحف الصغيرة التي تعرض حياة الأجداد وأدواتهم التقليدية، ويستمع إلى القصص التي تحكي عن ماضي عسير وتقاليدها العريقة.
كما يمكن زيارة قرية المفتاحة في أبها، وهي مركز ثقافي يحتضن الفنون التشكيلية والحرف اليدوية، مما يجعل التجربة الثقافية مكمّلة لرحلة الجبل والطبيعة.

مواسم السودة.. حين تحتفل الطبيعة بالزوار
في فصل الصيف، تتحول السودة إلى مهرجانٍ حيٍّ من الأنشطة والموسيقى والفعاليات البيئية. تُقام فيها مواسم السودة التي تستقطب الزوار من مختلف مناطق المملكة وخارجها، وتجمع بين العروض التراثية والفنية والأنشطة الرياضية مثل الطيران الشراعي وركوب الدراجات الجبلية والمشي الطويل في المسارات الطبيعية.
وفي الشتاء، تتحول السودة إلى لوحة من الغيوم الكثيفة التي تغمر الجبال، فتبدو القمم وكأنها تنام على وسادة من الضباب. هذه الازدواجية بين الفصول تمنح المنتزه سحرًا متجددًا يجعل زيارته مختلفة في كل مرة.

السودة.. أنشودة الطبيعة وروح الجنوب
في نهاية الرحلة، يُدرك الزائر أن السودة ليست مجرد وجهة سياحية، بل رحلة إلى روح الجبل. هنا تتكامل عناصر الطبيعة — الغابة والضباب والارتفاع والصمت — لتُعيد للإنسان توازنه مع ذاته.
هي مكان يتحدث بلغةٍ هادئة، تُصغي إليها القلوب قبل الآذان. في كل غيمة تمر، وكل نسمة تهب، وكل شجرةٍ تهمس، هناك دعوة إلى التأمل، وإلى الانتماء العميق لهذه الأرض التي لا تُشبه سواها.
إنها السودة، حيث يُصبح الضباب وطنًا للجمال، والجبل معبدًا للسكينة، والطبيعة قصيدة لا تنتهي.