
محمية عروق بني معارض.. صحراء تتنفس الحياة ومغامرات تروي حكاية الجمال في قلب الربع الخالي
في أقصى الجنوب السعودي، حيث تمتد الرمال بلا نهاية، وتتماوج الكثبان كبحر من ذهبٍ ساكن، تتربع محمية عروق بني معارض كأحد أعظم أسرار الطبيعة وأكثرها سحرًا. إنها ليست مجرد صحراء، بل عالم من الدهشة يعيش على وقع الرياح ودفء الشمس، ومسرح للحياة الفطرية التي استعادت أنفاسها بين الكثبان في مشهدٍ نادرٍ من الانسجام بين القسوة والجمال.
أول موقع طبيعي سعودي في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو
تقع المحمية على الحافة الغربية للربع الخالي، بمساحة شاسعة تتجاوز 12,750 كيلومترًا مربعًا، وتمتد في صمتها المهيب لتشكل الصحراء الرملية المتصلة الوحيدة في آسيا الاستوائية. هذا الامتداد الساحر منحها مكانتها كأول موقع طبيعي سعودي يُدرج ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، بعدما استوفت معايير التفرد الطبيعي والبيئي التي تجعلها من أبرز المواقع البكر في العالم. فهي ليست فقط مسرحًا للرمال، بل مختبر حي للتنوع البيولوجي الذي يقاوم قسوة المناخ ويُعيد تعريف مفهوم الحياة في الصحراء.

مغامرات تروي حكاية الجمال
منذ الوهلة الأولى، تشدّ الزائر مشاهد الرمال الممتدة حتى الأفق، تتبدّل ألوانها بين الذهبي والعنبر والنحاسي بحسب زاوية الضوء، وكأنها لوحة متحركة رسمتها يد الخالق. هذا المشهد البانورامي الخيالي هو أحد أسباب إدراجها على قائمة التراث العالمي، إذ تضم بعض أكبر الكثبان الخطية المعقدة في العالم، وتُجسّد قيمة بيئية استثنائية، إذ تحتوي على خمس مجموعات من النظم البيئية الوطنية التي تتداخل فيها الكثبان، والسبخات، والسهول الحصوية، والوديان القديمة، والواحات الصغيرة التي تنبض بالحياة في قلب الصحراء.
تنوع فطري لا مثيل له
ورغم هذا الاتساع المهيب، فإن المحمية تزخر بأشكال متعددة من الحياة. فهي موطن لأكثر من 900 نوع من الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية، بينها 120 نوعًا من النباتات البرية الأصيلة التي تتشبث بالحياة بين الرمال.
وهنا يعيش القطيع الوحيد الحر من المها العربي في العالم، رمز الصحراء العربية الأصيل الذي عاد إلى موطنه بعد سنوات من الغياب، إضافة إلى الظباء الرملية والجبلية والثعالب العربية والطيور المهاجرة التي تجد في هذا الامتداد الهادئ محطة استراحة آمنة في رحلاتها الموسمية.
لكن روعة عروق بني معارض لا تكمن في طبيعتها فحسب، بل في تجربتها الحسية والروحية التي تمنح الزائر شعورًا بالتحرر والانتماء في آن واحد. فهي وجهة مثالية لعشاق المغامرة والهدوء، تجمع بين رهبة الصحراء وسحرها الهادئ، وتفتح الباب أمام سلسلة من التجارب الفريدة التي لا تُنسى.

متعة التخييم في أحضان النجوم
من أبرز تلك التجارب التخييم في قلب الصحراء، حيث لا شيء يضاهي لحظة الغروب حين تتوهج الكثبان بلون العنبر، أو الليل حين يتحول السكون إلى موسيقى خافتة تعزفها الرياح. التخييم في عروق بني معارض تجربة تعيد الإنسان إلى جذوره الأولى، بعيدًا عن صخب المدن وضوضاء العالم.
في الليل، تتلألأ السماء بآلاف النجوم في مشهدٍ يندر أن يُرى في أي مكان آخر، فهنا صفاء السماء مطلق، بلا تلوث ضوئي، يتيح للزائر التأمل في عظمة الكون، وربما استعادة حوارٍ داخلي مع الذات. بعض الزوار يختارون التخييم في محطات مخصصة تتوافر فيها خدمات أساسية للراحة، بينما يفضل آخرون التجربة البدوية الأصيلة، بالنوم على الرمال والاستيقاظ على همسات الصباح الأولى.
إثارة لا مثيل لها مع رحلات السفاري
أما محبو المغامرة، فسيجدون في رحلات السفاري الصحراوية تجربة مليئة بالإثارة والجمال في آن واحد. تمتد الطرق الوعرة بين الكثبان الضخمة، وتُستخدم سيارات الدفع الرباعي لعبور تضاريس الرمال المتحركة، في مغامرة تُضخ فيها الأدرينالين وتُلامس فيها حرية الصحراء. مع كل صعود لكثيب رملي ضخم، يُكافأ السائق والمرافقون بمشهدٍ بانورامي يقطع الأنفاس. الرمال تحتهم تمتد كالذهب المصهور، والسماء من فوقهم صافية كصفاء الروح. إنها تجربة تجمع بين المغامرة والتأمل، وتمنح الزائر إحساسًا فريدًا بالانتماء إلى المكان. وغالبًا ما تُنظَّم هذه الرحلات ضمن جولات بيئية موجهة تراعي الحفاظ على النظام البيئي، وتُدار من قبل مرشدين متخصصين يعرفون أسرار الصحراء وممراتها الآمنة.

جنة فوتوغرافية بكل معنى الكلمة
ولعشاق التصوير، تُعد المحمية جنة فوتوغرافية بكل معنى الكلمة. الكثبان العملاقة، خطوط الرياح التي ترسم تموجات الرمال، آثار الحيوانات البرية التي تترك نقشها على السطح الذهبي، والمها العربي الذي يظهر في الأفق بخطوات واثقة — كلها عناصر تجعل من المكان لوحة فنية لا تحتاج إلى تعديل. هنا، يُصبح الضوء مادة سحرية، يتبدل كل ساعة فيمنح المشهد ألوانًا جديدة. المصورون المحترفون يعتبرون الصباح الباكر والغروب أفضل توقيت لالتقاط الصور، حين تتعانق الظلال والوهج في مشهد درامي آسر.
رحلات بيئية إستثنائية
وتُقدَّم في المحمية أيضًا رحلات تعليمية وبيئية مخصصة للزوار الراغبين في التعرف على النظم البيئية الفريدة للصحراء. هذه الرحلات تُنظم غالبًا بالتعاون مع هيئة تطوير المحميات الملكية، وتشمل جلسات توعوية حول كيفية التوازن بين الحفاظ على البيئة واستكشافها بطريقة مسؤولة. يتعرف الزوار على الأنواع النباتية التي تنمو في الرمال، وعلى أساليب تكيف الحيوانات مع شح المياه ودرجات الحرارة المرتفعة. وغالبًا ما يخرج الزائر من التجربة بوعي جديد تجاه أهمية الحفاظ على هذا الكنز الطبيعي للأجيال القادمة.

متعة متابعة الغروب والشروق
أما تجربة الغروب والشروق، فهي لحظة من السحر الخالص. لا يمكن أن تُقارن مشاهدة شمس الربع الخالي وهي تغوص ببطء خلف الكثبان بأي مشهد آخر.
الأفق يشتعل باللون البرتقالي، والرمال تكتسب بريقًا نحاسيًا، والهواء يصبح أكثر لطفًا. في تلك اللحظات، تختفي الحدود بين الواقع والخيال، ويشعر الإنسان أنه جزء من لوحة إلهية تتبدل ألوانها كل ثانية. وعند الفجر، حين تشرق الشمس من خلف الكثبان، يغمر الضوء المكان بلونٍ ذهبي ناعم يُنعش الروح ويُعيد الحياة إلى الرمال.

نموذج فريد لرؤية المملكة 2030
ما يميز عروق بني معارض أيضًا هو التزامها بمفهوم السياحة البيئية المستدامة. فالمحمية ليست مفتوحة للزيارة العشوائية، بل تُدار وفق سياسات صارمة توازن بين تمكين الزائر من الاستمتاع بالطبيعة وحماية النظام البيئي الدقيق الذي يميزها. وتُعتبر هذه الإدارة المتوازنة نموذجًا لرؤية المملكة 2030، التي تسعى إلى تعزيز الوعي البيئي، وتشجيع السياحة المسؤولة، وتقديم تجارب سياحية أصيلة تحترم البيئة وتحتفي بجمالها.
رحلة إلى أعماق الذات
زيارة عروق بني معارض ليست مجرد رحلة إلى الصحراء، بل هي رحلة إلى أعماق الذات، إلى حيث يُصبح الصمت لغة، والرمال ذاكرة، والسماء مرآة للنقاء الداخلي. إنها تجربة تُغذي الروح بصفاء الطبيعة، وتمنح الزائر شعورًا لا يُنسى بالسكينة والدهشة. في هذا المكان، حيث تتنفس الصحراء الحياة وتُعيد تشكيل الزمن، يدرك الإنسان أنه مهما ابتعد، سيبقى جزءًا من هذا الكون العظيم الذي لا ينفد جماله.
