
خاص "هي": أجمل أسرار الشمال الألماني بريمن وبريمرهافن.. بين عراقة المدينة وحداثة الميناء
قبل أن أزور بريمن، الولاية والمدينة، كثيرًا ما سمعت أنّها وجهة مليئة بالمفاجآت التاريخية والقصص غير المتوقعة. ومع ذلك، لم أكن أتصوّر أنها ستدهشني بهذا الشكل. فكل زاوية فيها تروي حكاية، وكل معلم يكشف عن طبقة جديدة من تاريخها البحري والتجاري والثقافي العريق. وبرفقة شقيقتها الساحلية بريمرهافن، شكّلت هذه المدينة الألمانية الشمالية ثنائيًا استثنائيًا أخذني في رحلة عبر الزمان والمكان تبدأ من شواطئ قد أبحرت منها وإليها حضارات العالم القديم.
بريمن: مدينة المفاجآت
على ضفاف نهر فيزر، تقف بريمن معتزّة بهويتها الفريدة وتاريخها الحضاري وخضارها الأخّاذ، كونها الأكثر اخضرارًا بين المدن الألمانية الكبرى. أفضل طريقة لاكتشافها على الإطلاق هي سيرًا على الأقدام، فمجرد 20 دقيقة تكفي لاجتياز قلبها التاريخي، حيث تقودك الأزقّة المرصوفة بالحجارة عبر قرون من الابتكار والفكر والفن.
يبدو وسط المدينة كأنه متحف مفتوح، من عظمة مبنى البلدية وتمثال رولاند المُدرجَين على قائمة التراث العالمي لليونسكو نظرًا لأهميتهما التاريخية والسياسية والفنية، إلى الأزقة المشوّقة في حيّ "شنور" حيث تصطف البيوت الخشبية العائدة إلى القرون الوسطى وكأنها لآلئ على حبل، وقد تحوّلت اليوم إلى مقاهٍ ساحرة وبوتيكات متخصصة ومشاغل حرفية وصالات عرض فنّية. ومن بين أكبر مفاجآتها وجود أصغر بيت في ألمانيا، بمساحة لا تتجاوز أربعة أمتار مربعة.

في قلب المدينة يقف مبنى بلدية بريمن، الذي بُني بين عامي 1405 و1410، ولا يزال إلى اليوم يؤدي دوره السياسي، ما يجعله المبنى البلدي الوحيد في العالم من العصور الوسطى الذي لم ينقطع نشاطه الحكومي قط. تتميز واجهته التي أضيفت في القرن السابع عشر، إلى جانب قاعته العليا المهيبة وغرفة "غولدنكامر" الفنّية المصممة على طراز الآرت نوفو، بأنها ما زالت تحتفظ بحالتها الأصلية تقريبًا. وتُزيّن جدران القاعة لوحات ضخمة وعناصر فنّية ومعمارية رمزية تعكس فخر سكّان بريمن بمكانتها كمدينة حرّة تضع قوانينها بنفسها. ومن بينها أكبر لوحة تصوّر حوتًا في أوروبا، وهي تُخلّد قصة تكاد لا تُصدّق. ففي القرن السابع عشر، وأثناء نزاع مع القوات السويدية، جنح حوت في نهر فيزر. فقام السويديون، المتمركزون على الضفة الشمالية، بجرّه إلى جانبهم للاستحواذ عليه. غير أن سكّان بريمن، وهم الأدرى بخصائص النهر، تسلّلوا ليلًا، وحرّروا الحوت، وسحبوه إلى جهتهم. فما كان من عمدة المدينة حينها إلا أن أمر برسم لوحة تخلّد هذه الحيلة الذكية والانتصار الرمزي.

إيقاعات النهر وذكريات البحر
رصيف "شلاخته" النهري هو القلب النابض لبريمن، حيث تصطفّ المطاعم والمقاهي والحدائق الترفيهية، التي تعجّ صيفًا بالسكّان المحليين والزائرين الذين يستمتعون بإطلالة مباشرة على الماء، فيما يتحوّل المكان في الشتاء إلى وجهة ساحرة مع انطلاق سوق أعياد نهاية العام. وعلى طول الرصيف، ترسو سفن قديمة وحديثة، من بينها سفينة على طراز القراصنة تقدّم الفطائر، ومسرح عائم، إضافة إلى رحلات نهرية وجولات في الميناء على متن قوارب نهر فيزر.
وإذا اتّجهنا شمالًا، نجد أقدم ميناء صناعي في ألمانيا، والذي يحتضن فعاليات ثقافية بارزة. ويزدان هذا الجزء من المدينة بمساحات خضراء وحدائق عامّة ومنشآت فنية في الهواء الطلق، ما يجعله وجهة مثالية لجولة بالدراجة الهوائية على طول ضفاف النهر.

إرث بريمن التجاري: القهوة والقطن والسيغار
قليلون يعلمون أن نسبة كبيرة من القهوة التي تُستهلك في ألمانيا تمر عبر بريمن، المدينة التي شكّلت أيضًا نقطة الانطلاق لصناعة إزالة الكافيين على مستوى العالم. ويمكن للزائرين اليوم زيارة محامص القهوة المحلية، والمشاركة في ندوات تعليمية، بل وحتى الالتحاق بدورات تدريبية لتعلّم مهارات الباريستا.
تاريخيًا، كانت بريمن أيضًا عاصمة السيغار في ألمانيا، حيث عمل أكثر من سبعة آلاف فرد في لف السيغار يدويًا. ورغم أن بورصة التبغ أغلقت أبوابها، فإن صدى هذه الحقبة لا يزال حاضرًا في ملامح المدينة. كما تُعدّ بريمن واحدة من 14 مدينة فقط في العالم تستضيف بورصة للقطن، في شهادة حيّة على ماضيها التجاري العريق.

الفنّ، والفكر، وروح أطلانتس
في بريمن يتنفّس الفن من بين الجدران. في متحف "كونستهاله" Kunsthalle، الذي تأسّس عام 1849 على يد جمعية تطوعية، يستكشف الزائر أكثر من 6 قرون من الفن الأوروبي، من الانطباعية الفرنسية والألمانية إلى التركيبات الرقمية الحديثة. ومن أبرز التجارب الغامرة التي يحتضنها المتحف، التركيب الضوئي "بيكسل فورست فيزيرا" للفنانة "بيبيلوتي ريست"، والذي يتألّف من نحو 3,000 مصباح LED ويشبه غابة سحرية تستحضر تشابكات الدماغ والألوان التي نراها بأعين مغمضة. ولا ننسى أول متحف في العالم يُخصَّص لفنانة امرأة، وهو متحف مكرّس لأعمال الفنانة التعبيرية الألمانية باولا مودرزون-بيكر. وفي الجوار، كنز غريب داخل فندق راديسون بلو: غرفة تُدعى "بيت أطلانتس"، صمّمها أحد التجّار استنادًا إلى اعتقاده بأن المدينة الأسطورية المفقودة كانت تقع شمال بريمن مباشرة، وأنها كانت مصدرًا لانتشار الحضارة عبر بحر الشمال. ورغم كل هذا الانفتاح على العالم، لا تتجاهل بريمن ماضيها ولا تخشى التعلّم منه. ففي حديقة "نيلسون مانديلا"، تحوّل تمثال الفيل الضخم الذي شُيّد عام 1931 كنُصب استعماري، إلى معلم مضاد للاستعمار، في موقف نقدي شجاع من المدينة تجاه ماضيها.

تفوّق هندسي وطموح فلكي
كذلك، تحتلّ بريمن موقعًا متقدّمًا بين المدن الأوروبية في صناعتَي الفضاء والسيارات. في منشأة إيرباص للدفاع والفضاء، يمكن للزائرين التجوّل داخل نسخ طبق الأصل من وحدة كولومبوس التابعة لمحطة الفضاء الدولية، وإلقاء نظرة على غرف الإنتاج، والتعرّف على تفاصيل الحياة اليومية لروّاد الفضاء. فهنا، في قلب بريمن، تُخطَّط وتُبنى بعثات فضائية حقيقية.
ولعشّاق السيارات، تفتح بريمن أبواب واحدة من أكثر مصانع السيارات تطوّرًا في العالم، حيث تصنع مرسيدس طرازات كثيرة من سياراتها الشهيرة. ويمكن للزوّار حتى تجربة القيادة في مضمار خاص بالطرق الوعرة، لاكتشاف القوة الهندسية عن قرب.

بريمرهافن: بوّابة إلى العالم
على بُعد أقل من ساعة، تتلألأ بريمرهافن بوعد بحريّ عند الضفة الشرقية لمصبّ نهر فيزر. تأسست المدينة عام 1827 كميناء بحري تابع لبريمن، ولا تزال حتى اليوم من أكثر موانئ ألمانيا ازدحامًا، وواحدة من أهم الوجهات الأوروبية لعشّاق تاريخ السفر البحري. هي في الوقت نفسه ميناء عالمي، وبوّابة إلى بحر الشمال، ومركز علميّ متطوّر؛ فتقدّم إلى زوّارها مزيجًا ساحرًا من المعرفة والتجارب والمعالم المرتبطة بالبحر والملاحة. لطالما شكّلت صناعة بناء السفن جزءًا أساسيًا من هوية المدينة، وهنا أيضًا وُلد أول ميناء ألماني لصيد الأسماك في أعالي البحار.
هنا، يأخذك "مركز الهجرة الألماني" في رحلة مؤثرة إلى حياة ملايين الأشخاص الذين مرّوا عبر بريمرهافن، أكبر ميناء للهجرة في أوروبا، بحثًا عن بداية جديدة خلف المحيط، وخصوصًا في الأمريكتين. نجتاز هياكل سفن عتيقة، ونتجوّل في قاعات المغادرة، ونستمع إلى قصص حقيقية مؤثّرة جرى توثيقها بعناية عبر تجارب تفاعلية غامرة. أما الجناح الجديد في المتحف، فيعكس المشهد من الجهة الأخرى، إذ يروي حكايات الوافدين إلى ألمانيا من مختلف أنحاء العالم وهم يحملون معهم أمل البدايات الجديدة.

بريمرهافن ليست مدينة بحرية فحسب، بل أيضًا مركز علمي رائد ومكان لاكتشاف كوكب الأرض. في "كليماهاوس بريمرهافن"، تنطلق في رحلة فريدة عبر مناطق المناخ المختلفة حول العالم، من غابات الكاميرون الاستوائية إلى جليد القارة القطبية الجنوبية، دون أن تغادر المبنى. ستشعر بحرارة المناطق الاستوائية، وترتجف من برد القطب، وتخرج في النهاية بفهم عميق لقضية تغيّر المناخ وأهمية الاستدامة ومسؤولية كل واحد منّا.
ويحتفي "المتحف البحري الألماني" بتاريخ عريق، متباهيًا بسفينة من نوع "كوغ" عائدة إلى عام 1380، وهي أفضل سفينة تجارية من العصور الوسطى تم اكتشافها على الإطلاق، إلى جانب مجموعة من السفن التاريخية الراسية خارج المتحف مباشرة.
أما في ميناء الصيد، فيمكن للزائرين المشاركة في عروض طهي حيّة ودورات طبخ داخل استوديو خاص، حيث يستعرض كبار الطهاة مهاراتهم في تحضير أشهى أطباق مناطق بحر الشمال، ببراعة وشغف. وعلى طول الأرصفة، نشاهد قوارب الركاب الأنيقة، والمراكب الشراعية، واليخوت، إلى جانب السفن التقليدية والسياحية الضخمة. وفي أغسطس، تستضيف المدينة أكبر مهرجان للسفن الشراعية على ساحل بحر الشمال، مع أكثر من 250 سفينة وبحّارة من كل أنحاء العالم، على ضوء ألعاب نارية بألف لون ولون.

مدينتان ورحلة عبر الزمن
بريمن وبريمرهافن هما بطلتا رواية الشمال الألماني، رواية مكتوبة بالحجر والخشب ومياه البحر. من المباني العائدة إلى العصور الوسطى، إلى التركيبات الفنّية المعاصرة، ومن نماذج استكشاف الفضاء إلى السفن التاريخية، تأخذك هذه الرحلة بين المدينتين إلى عالم في حركة دائمة، عبر الحقبات الزمنية والحدود الجغرافية. سواء كنت تطارد أساطير القارّات المفقودة، أو تتوه بين قرون من الفنون، أو تكتفي باحتساء قهوتك على ضفاف نهر فيزر، فإنّ قلب شمال غرب ألمانيا لن يتوقّف عن إدهاشك في كل منعطف.
