فيلم "Frankenstein".. قصيدة سينمائية حالمة عن الوحش المنبوذ وقسوة الإنسان
فيلم "فرانكشتاين" من أبرز الأعمال التي أنتجتها شبكة نتفليكس عام 2025، من تأليف وإخراج جيليرمو ديل تورو، وهو ليس مجرد إعادة صياغة لرواية ماري شيلي الكلاسيكية؛ إنه سرد قاتم لحكاية الغرور البشري في مواجهة المشاعر المرهفة، والفيلم يجمع بين التراجيديا الإنسانية والجماليات القوطية. يجسد أوسكار إيزاك فيكتور فرانكشتاين كطبيب عالم مغرور يحمل داخله كثير من القسوة، بينما يأخذ جاكوب إلوردي دور الوحش إلى أعماق شعرية تجعلنا نرى في عينيه انعكاساً للظاهر الذي يُناقض الباطن. على عكس الظن الشائع، فرانكشتاين هو اسم العالم، بينما لا يحمل الوحش في القصة اسمًا.
البرق والندم
الحبكة في "فرانكشتاين" مثل البرق الذي يضرب السماء في ليلة عاصفة: مفاجئ، مُضيء للحظة، ثم يعود الظلام أكثر كثافة من ذي قبل. يبدأ الفيلم بمطاردة درامية في المناطق القطبية عام 1857، حيث يلتقي الكابتن والتر (لارس ميكلسن) بفيكتور فرانكشتاين الجريح، الهارب من كائن صنعه يشبه شبحاً يرتدي رداءً أسود. هذا الافتتاح، المستوحى من إطار الرواية الأصلي، يتحول إلى سرد فلاش باك يرويه فيكتور، يكشف عن طفولته المعذبة بفقدان الأم، وهوسه بإيقاف الموت. محاولات خلق كائن بشري يُقاوم الموت تحدث في برج قوطي يعج بالآلات الكهربائية العملاقة، حيث يجمع فيكتور أجزاء جثث من مقابر وساحات معارك، ليُحيي الوحش في مشهد يشبه ولادة ملحمية عنيفة مليئة بالصرخات والوميض الأزرق.

الوفاء السردي لرواية شيلي، مع لمسات ديل تورو التي تحول التراجيديا إلى قصيدة عن الوحدة. على سبيل المثال، لا يُقدَّم الوحش كعدو أو كائن متوحش، بل كطفل يتعلم الكلام كلمة كلمة، يمسك فأراً صغيراً في يديه الخشنة كأنه يمسك بأول صديق، مما يعكس سياق الأجواء الاجتماعية الطبقية، حيث يصبح الوحش رمزاً للنبذ الاجتماعي والدونية. هذا يبني توتراً عاطفياً يصل ذروته في مشهد حريق البرج، حيث يتحرر الوحش من سلاسله كعبد ويصبح بطلاً خارقاً، يروي قصته الغريبة بصوت هادئ يقطع الصمت.

رواية الوحش
لكن العيوب تظهر مع الطول الزائد – ساعتان ونصف – الذي يجعل الحبكة تتخبط في بعض المراحل. التحول في المنتصف إلى رواية الحكاية من منظور الوحش، رغم براعته، يبطئ الإيقاع، حيث يصبح السرد مكرراً في استكشاف الوحدة، كأن ديل تورو يخشى أن يترك الجمهور دون درس أخلاقي واضح. إضافة شخصية هينريك هارلاندر (كريستوف والتز) كعم لإليزابيث تضيف طبقة عائلية، لكن خروج الشخصية المبكر يقطع خيطاً درامياً هاماً.

في سياق السينما، أفسدت بعض الاقتباسات السينمائية للأعمال الكلاسيكية التوازن بين المضمون الشعري للحكاية وخشونة السرد السينمائي، ومما يجعل النهاية – حيث يواجه العالم الوحش الذي صنعه في حوار يتوسل الغفران – تبدو مُفرطة في الرمزية، كأنها محاضرة فلسفية بدلاً من انفجار عاطفي. رغم ذلك، تبقى الحبكة هيكلاً قوياً، يدعو للتأمل في كيف يصبح المشروع العلمي للعالم قتلاً ووحشية عندما يُولد من رحم الغرور والقسوة.

أشباح تتنفس
أوسكار إيزاك، في دور فيكتور، هو النجم اللامع الذي يحرق نفسه: شعره الطويل المبعثر، عيناه المتوهجتان بالهوس، يجسد العالم كفنان مجنون يرسم لوحة غرابية من اللحم والدم والشرايين. أداؤه يتدفق كالكهرباء التي يستخدمها في الخلق – سريع، عنيف، ثم يهدأ في لحظات الندم ليصبح همساً يقطع القلب. مزيجه بين الذكاء المتقد والانهيار العاطفي يجعله أقرب إلى الشخصيات الملحمية في السينما، حيث يُخفي البطل المقهور وحشاً داخلياً يتغذى على روحه.

جاكوب إلوردي، في دور الوحش، هو الإنجاز الأكبر: جسده الطويل الملتصق بالندوب يشبه تمثالاً رومانياً عملاقاً مشوهاً، و لكنه يحمل روح طفل تجعل الوحش ليس مجرد جسد، بل صوتاً جريحاً ينشد التعاطف. عيناه، كبيرتان وحزينتان، تنقل الوحدة كما لو كانت بحراً هائلاً يبتلع السفن الواحدة تلو الأخرى. مزيته تكمن في جعل الوحش "حقيقياً" – ليس مجرد CGI، بل جسداً بشرياً يتعلم المشي، يهمس أول كلماته كصرخة في الفراغ، واحد من الوحوش السينمائية والمسوخ البشرية التي أصبحت رموزاً للبراءة المفقودة.

ميا جوث في دور إليزابيث هي الرياح التي تهز الشجرة: قوية، غامضة، تجمع بين البراءة والقسوة. أداؤها يضيف طبقة رومانسية، خاصة في علاقتها بالوحش، حيث تُظهر كيمياء فورية تجعل الجاذبية بينهما منطقية وحتمية رغم غرابتها؛ فالوحش يُمثل البراءة التي تفتقدها إليزابيث في مجتمع متكلف وقاسي. كريستوف والتز يقدم هينريك كظل كوميدي قصير العمر، يخفف التوتر بابتسامة ساخرة، لكنه يغادر مبكراً كوميضٍ في عتمة.

الرومانسية والدماء
جيليرمو ديل تورو يخرج "فرانكشتاين" برؤية تحمل نسخته الخاصة للحكاية الشهيرة التي تُعيد صياغتها: بيد ترسم الظلال وتنثر الدماء في كل مكان، محولاً الرواية إلى لوحة حية مليئة بالدم والأجواء الشعرية. إخراجه يعتمد على الإيقاع البطيء الذي يبني التوتر كعاصفة تتجمع في الأفق. يدمج الفيلم الرمزية – الوحش كآدم المتمرد – مع لمسات شخصية؛ فالمطاردة الأولى في الجليد مصورة بكاميرات عريضة تجعل الوحش يبدو كشبح في ضباب، يتأرجح السرد بين الرعب من الوحش والشفقة عليه. أما الإفراط في التحيز للقصة الأصلية فقد جعل الإخراج يتردد أحياناً كصدى طويل جداً. التحول إلى منظور الوحش، رغم براعته، يشبه قفزة غير سلسة في الزمن، حيث يفقد التوتر الدرامي زخمه، كما لو كان ديل تورو يخشى أن يبتعد عن التزامه المقدس بقصة ماري شيلي.

في سياق السينما، هذا يذكر بكيف أدى الوفاء الزائد في بعض الاقتباسات إلى إبطاء الإيقاع، مما يجعل بعض المشاهد – مثل حوارات الغفران في النهاية – تبدو مُفرطة في الوعظ. رغم ذلك، إخراج ديل تورو يبقى ساحراً، يجعل الفيلم هيكلاً يدعو للتنقيح: قوي في بنيته، لكنه يحتاج إلى عضلات درامية أكثر حدة ليصبح أسطورة.
لوحة من اللحم والظلال
يلتقط التصوير السينمائي لدان لوستن الظلال كأنها أرواح تتسلل، مع إضاءة دافئة تتناقض مع الشفق القطبي الأزرق، مما يحول كل إطار إلى لوحة قوطية مُقبضة. في مشهد إحياء الوحش، حيث يضرب البرق كسيف، يُظهر الجسد يرتجف كورقة في الريح، فيتحول الضوء إلى سلاح أو بث للحياة. مونتاج إيفان شيف يتدفق سلساً في البداية، ثم عاصفاً في مشاهد العنف، لكنه يعاني من إبطاء في المنتصف، حيث تطول اللقطات كأنها أنفاس متعبة. موسيقى ديسبلات خافتة، كأنها غائبة، تتصاعد في مشاهد قليلة كصدى موسيقى باروكية ترن في الكهوف، مع أوتار تئن كألم الوحش. المؤثرات البصرية عانت من بعض المشاكل، مثل الذئاب الرقمية التي بدت مصطنعة، لكن باقي العناصر تبقى هيكلاً فنياً مليئاً بالتفاصيل يدعو للإعجاب.

مشاهد الأكشن في "فرانكشتاين" ليست مجرد عنف؛ إنها رقصة دامية بين العالم وصنعه، حيث يصبح الجسد ساحة معركة. الوحش يرمي البحارة كأنهم دمى ضئيلة يُهشمها دون مجهود، أثناء هجوم الوحش على السفينة، حيث يتحمل الرصاص كأنه مطر، فيجمع بين القوة والحزن، مما يجعل الأكشن تعبيراً عن الغضب المكبوت. لكن العيوب واضحة في الاعتماد المُفرط على الـCGI في المشاهد الخارجية، مما يجعل بعض المطاردات تبدو مسطحة كلوحات رقمية، وتقلل بذلك من الرعب الجسدي الخام.
مرآة الإنسانية المشوهة
يحل الطموح كلعنة على فيكتور فرانكشتاين، والوحدة سجن يقتله ببطء، ويبقى الغفران كضوء في النفق. ديل تورو حول الرواية إلى تأمل في الصدامات بين الأجيال، حيث يصبح فيكتور ابناً يرفض موت أمه، والوحش رمزاً للمهاجر أو المرفوض، كإسقاط ربما غير مقصود على حال الأقليات وأزمة الهوية المعاصرة. مشهد الوحش يتعلم القراءة من الرجل الأعمى؛ يرمز إلى كيف يولد الجهل الوحش، لكن التعلم يجعله إنساناً. النهاية تبدو مُفرطة في الشعرية، كأنها درس أخلاقي غير مكتمل. رغم ذلك، الرموز – البرق كولادة، الندوب كذكريات – تبني هيكلاً فلسفياً يجعل الفيلم مرآة مشوهة لعصرنا.

الصور من حسابات نتفليكس.