مسلسل "Lazarus".. هارلان كوبن والأشباح العائلية: رحلة لازاروس في متاهة الذنب
في أعماق الظلام الذي يلفّ شخصيات الحكاية، تغوص الكاميرا داخل تعقيدات النفس البشرية محاولةً تلمس التفسيرات والمبررات، فلا تجد في غابات الذكريات إلا الأشباح الهامسة وصدمات تُعيد رؤية الأحداث بمنظور جديد، جرائم قتل غامضة وأسلوب تحقيق بوليسي، خلف هذا الاستايل الدرامي عمل نفسي عن عائلة لديها جراح عميقة. هنا، يقف مسلسل “Lazarus” (لازاروس) كمرآة مكسورة، تعكس وجه الفقدان الذي لا يشفى.
المسلسل بثّته مؤخراً شبكة Amazon Prime Video، وهو مستوحى من فكرة كاتب الغموض والجريمة الأمريكي الشهير هارلان كوبن. المسلسل إقتباس بريطاني، بطولة سام كلافلين وبيل ناي وألكسندرا روش في دورَي الابن والأب، كلاهما يعمل بمجال الطب النفسي، بينهما علاقة متوترة تترنّح وسط عاصفة الذنب وضباب الأسرار العائلية.
إرث الأب
لازاروس هو اسم الطبيب النفسي الشهير (بيل ناي) الذي تفجع عائلته بانتحاره المفاجئ. فيعود جويل ”لاز” لازاروس، الطبيب النفسي الجنائي الذي يجسّده سام كلافلين، إلى مسقط رأسه بعد موت والده، ليجد نفسه أسيراً لأشباح تظهر له داخل مكتب والده المهجور، لا يُمكنه تفسير ما يحدث.
هذه الأشباح ليست مجرد هلوسات؛ إنها بوابات إلى ماضٍ مدفون، حيث يتداخل مقتل أخته سوتون (إلويز ليتل) قبل خمس وعشرين سنة مع سلسلة جرائم قتل أخرى لم تُكتشف حقيقتها.
واسم لازاروس أو أليعازر يشير إلى الشخصية التي أعيدت من الموت على يد المسيح، وأسلوب الحبكة يُقدم شكلًا مبتكرًا لدراما التحقيق البوليسي، كأن مكتب الأب آلة زمن تذهب بالبطل إلى رحلة تكشف أسرار الماضي، يلتقي بأشباح شخصيات ماتت، ليُعيد لقائها صياغة تفاصيل الماضي أو يُجيب على أسئلة بلا إجابات. تُبنى حبكة ”لازاروس” كمتاهة من الظلال المتشابكة، ويبني سيناريو الحلقات الست التوتر كجسر معلّق فوق هاوية، يهتز مع كل كشف جزئي عن السر العائلي الكبير: هل إنتحر الأب، أم كان ضحية لشيء أعمق يتجاوز الحدود النفسية؟
السياق الدرامي هنا يعتمد على مزيج من التشويق الجنائي والرعب النفسي، مستلهماً تراث هارلان كوبن الأدبي في تحويل الفقدان إلى لغز يتغذّى على الذنب، حيث يصبح الماضي وحشاً يطارد الحاضر بلا هوادة.

مزيد من التويستات
الميزة الأولى لأسلوب السرد يكمن في الإيقاع النفسي للكشوفات الأولية للماضي، الذي يشبه نبض قلب مذعور يتسارع تدريجياً. في الحلقة الثانية مثلاً، يلتقي لاز بشبح مريضة قديمة لأبيه، تُخاطبه كأنه والده نفسه، موجّهة إياه إلى ملف يكشف عن جريمة لم تُحل منذ 1999 مرتبطة باختفاء أخته. هذا المشهد، كبداية لسلسلة الألغاز، يجمع بين الماورائيات وغموض التحقيق، مذكّراً بأن الفقدان ليس نهاية، بل بداية لسلسلة من المواقف التي تعيد صياغة الواقع.
أما التويستات فهي قلب النبض الدرامي. في الحلقة الثالثة تظهر رؤى لأخته كأنها تعود من الموت، ملفتة نظر لاز إلى أدلة جديدة تشير إلى تورّط آخرين في جرائم متعددة. هذه التويستات تُبنى على فكرة ظلام النفس البشرية، حيث يصبح الشبح رمزاً للذنب المكبوت، معزّزة التوتر بطريقة تجعل المتفرج يشك في كل رواية.
وفي السياق الدرامي، تضيف هذه العناصر طبقة إنسانية؛ إذ تحول القصة من مجرد تحقيق جنائي إلى تأمل في كيفية تآكل الوقائع الظاهرة أمام الحدس، تكشف الوقائع الجديدة الصورة الحقيقة لبعض الاشخاص، صورة تُناقض المعروف عنهم. لكن رغم جاذبيتها، تتكرر التويستات بشكل مبالغ في غموضها، محوّلة الغموض إلى فوضى مصطنعة يقع في غرامها المتفرج الذي يبحث عن إثارة دائمة.
في الحلقة الرابعة يُعاد فتح ملف الجريمة القديمة بتفاصيل جديدة، كأنها إعادة سرد جديدة لذكريات الشخصيات، فتنشر الحقائق الجديدة مزيد من الضباب الكثيف حول الألغاز؛ مما يزيد وتيرة التشويق والغموض.

أشباح تواجه الأحياء
في قلب ”لازاروس”، يقف الأداء معبّراً عن الشخصيات بحس مرهف.
سام كلافلين في دور جويل لازاروس يحمل العالم في عينيه كبحر هائج من العواصف التي لا تهدأ. أداؤه تعرية لنفس مثقلة بالعواطف المكبوتة، مشابهاً لطائر يضرب جناحيه على زجاج الواقع، لا يستطيع المرور ولا يقدر على العودة.
في مشهد اللقاء الأول مع شبح المريضة القديمة، يتجمد وجهه بين الصدمة والغموض، مانحاً الشخصية عمقاً يؤكد أنه ليس بطلاً كاملاً.
ويتفوق كلافلين في تجسيد الغضب المكبوت، خاصة في الحلقة الخامسة حيث يواجه رؤيا أبيه، محوّلاً الحوار إلى صراع داخلي، معزّزاً الأداء كأداة للكشف عن الفقدان العاطفي، وجروح الماضي التي لم تشفى.

أما بيل ناي فهو الأب الميت الذي يعود كشبح أكثر حياة من الأحياء. أداؤه قوي ومخيف، يشبه نسيماً بارداً يتسلّل بين الأضلاع، محمّلاً كل لحظة بثقل علاقة الأب بأبنائه. ورغم قلة مشاهده بعد الموت، يحوّل كل لحظة إلى درس في العمق العاطفي، كما في الحلقة السادسة حيث يتحدث مع ابنه في رؤيا، ملقياً عليه بكثير من الأسرار كأحجار ثقيلة في بحر ساكن، مجسّداً الأب كرمز لميراث ملعون في سياق حكاية تُحاول تفسير تعقيد العلاقات الإنسانية.
للأسف، تبدو بعض الشخصيات الداعمة كظلال باهتة في الأدوار الثانوية، غير قادرة على ترك أثر عميق في وجدان المتفرج.
ألكسندرا روش في دور جينا الأخت تحمل إمكانيات هائلة، لكن أداءها يضيع في تكرار البكاء المصطنع، مخالفاً سياق العمل الذي يحتاج فيه الجميع إلى أرواح تنبض بالحياة لتحمل ثقل أسرار لا تُطاق.

لوحة الظلام والنور
الإخراج يحوّل المشاهد إلى لوحات قاتمة تتدفق بالحركة وتكرّس الغموض والتوتر. في الحلقة الأولى، يبدأ المقطع بمشهد الانتحار بكاميرا تتحرّك ببطء مثير يبني الخوف كجدار من الصمت، معزّزاً الجو الخارق بتوازن يعبّر عن الفقدان كانهيار سدّ يغرق البطل بتيارات جارفة من الهموم والشعور بالذنب.
الميزة الأساسية تكمن في الإبداع البصري، حيث يستخدم العمل الإضاءة كمصباح صغير في غابة مظلمة، مضيئاً الوجوه بلمحات شحيحة تكشف الجروح دون أن تعريها كلها.
في مشهد الرؤيا الأولى في مكتب الأب، يتدفق الضوء الأزرق من نافذة مكسورة، معزّزاً الجو الخارق والمعنوي في الدراما. الإضاءة هنا ليست مجرد أداة تكنيكية، بل رمز بصري يعكس التعقيد النفسي.
في الحلقة الرابعة، تتحول الإضاءة المتقلبة في الغابة إلى مرآة للفوضى الداخلية، محوّلة المشهد إلى لوحة تتدفق بالعواطف المتضاربة، معزّزة الرؤية البصرية كجزء أصيل من الحبكة نفسها.

أصداء الموت والحياة
تتداخل الموسيقى والتصوير والحركة في ”لازاروس” لتخلق عالماً ينبض بحياةٍ تخلو من الروح. الموسيقى التصويرية تتدفق بأصوات إلكترونية تشبه نبض قلب مكتوم، معزّزة الجو الخارق في حكاية تتأرجح بين الواقع والخيال.
التصوير يرسم المشاهد كقصائد بصرية. زاوية الكاميرا تتحرّك كعين متجسّسة تكشف التفاصيل المؤلمة. في المشهد الذي يزور فيه لاز مكتب أبيه، تتسلّل الكاميرا بين الكتب القديمة كأنها تبحث عن سر مدفون، معزّزة الإحساس بالحصار النفسي والعمق البصري.
الإضاءة، كعنصر متكامل، تتحوّل إلى رمز للكشف. في الحلقة السادسة، تتقلب الأضواء الباهتة في المقبرة كأنها تكشف الحقيقة تدريجياً، محوّلة المشهد إلى ذروة بصرية تعزّز التويستات دون إفراط.

الحبكة والمكان يضيفان عمقاً رمزياً للسرد. مكتب الأب الضخم بطرازه المعماري القديم يصبح كمدفن لأسرار الماضي.
وفي الحلقة السادسة، يتحوّل الكتاب القديم إلى مفتاح الكشف، معزّزاً الثيمة بشكل شعري: الموت بعثٌ، والذنب دورة لا تنقطع.
مسلسل ”لازاروس” عمل تشويقي ممتع لمحبي هذا النوع الذي يمزج غموض الجريمة بالأسرار العائلية. مزاياه في العمق النفسي والفن البصري تجعله لوحة درامية جذابة حقاً.
الصور من حساب منصة Prime