في عصر روبوتات الدردشة.. كيف أنقذتنا السينما؟!
السينما أداة علاجية، يبدو الأمر غير معتاد أو غير دارج، ولكن مؤخرا راج هذا المفهوم حتى بين أوساط المختصين الذين يبحثون عن طرق لا تثقل كاهل من يعانون من المتاعب النفسية، فالفنون بوجه عام باتت مدرجة ضمن برامج عدة في هذا الإطار وفي عصر أصبح فيه التوتر سمة غالبة بسبب طبيعة سير الحياة بصفة عامة، هنا تتجاوز السينما بالتحديد فكرة الترفيه، وتصبح أداة للتنفيس، ورفيقا آمنا في ليالي القلق وصديقا مثاليا في أوقات السكينة.
يظهر دور آخر للسينما وهو تهيئة الجمهور لآفاق التقنيات المرتبطة بعالم الذكاء الاصطناعي، حيث إن كثيرا من الأفلام استشرفت قبل عقود مستقبل التكنولوجيا، واستعرضت قصصا ظهرت حينها مغرقة في الخيال والتهيؤات غير الواقعية، ولكن تلك الأحلام ببساطة تحققت، حيث كان المشاهدون قد خاضوا التجربة افتراضيا على شاشات العرض فيما قبل، واستكشفوا جانبا من مشاعرهم وأفكارهم حينما وضعوا أنفسهم مكان الأبطال، وعلى الرغم من أن الخيال السينمائي الجامح الذي سبق ابتكارات مهندسي التكنولوجيا بعصور، قد بدا مظلما وقاتما وصاعقا ومهددا للعواطف كما نعرفها وللروابط بين البشر، ولطبيعة الحياة بشكل عام، ولكن هذه الاستباقية وهذا الصدق في الطرح كان معينا جيدا للكثيرين الذين كان قد تهيأ وعيهم من خلال الحكايات عميقة التأثير على الشاشة.

النجاة بالأفلام
فقد أنقذتنا السينما مرارا ولا تزال تفعل، ولا سيما في نمط معيشة بات فيه "تشات جي بي تي" التطبيق المفضل لدى فئات كثيرة، كمساعدا مخلص ومنجز، يتكيف بلا مجهود مع شخصية المتعامل معه، حيث تدخل تقنيات الذكاء الاصطناعي في كل التفاصيل اليومية تقريبا، بشكل يطغى على العلاقات الإنسانية الفعلية، وهو ما يجعل البعض يبدو مرتبكا أمامها، بل ويتملكه الخوف مما يمكن أن تصل إليه تلك التقنيات التي تنحي العوامل الإنسانية جانبا وتستبدلها بخوارزميات تحاكي البشر.
ورغم القلق الذي ينتاب نجوم اليوم مما يمكن أن يصل إليه هذا الابتكار، حيث قد يستبدلهم بشخصيات مولدة بالخوارزميات، فإن الإبداع السينمائي صاغ قصصا متشابكة حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل تطور التكنولوجيا من خلال خيال فني ألهم العلماء التقنيين، وقد ظهر في أعمال استعرضت قصصا مركبة تحمل أسئلة حول المصير الإنساني الذي يتقاطع مع جموح الآلة والخوارزميات التي تبدو مرعبة ومسيطرة ومثيرة للحيرة والارتباك ومصدرا للتوتر النفسي، وعلى الرغم من أن جانبا منها كان يبدو عصيا على التحقق ومغرِقا في تحليقه، لكن حتى بعض الخيالات الغارقة في اللامعقول أصبحت واقعا نلمسه يوميا مع الثورة الحاصلة في هذا المجال.

وبذلك يمكن القول إنها أصبحت تشبه المرجعية بالنسبة للمتفرجين الشغوفين، وساعدتهم في فهم ذواتهم، وتقبل صدمات التكنولوجيا، لأن التطور الكبير بالفعل قد يتحول إلى نقمة تُحسم من الرصيد الشعوري والإنساني وتزيد من العزلة والإحباط والشعور بالاغتراب، بل حذرتهم أيضا من عواقب الإفراط في الانغماس في تقنيات التواصل مع روبوتات الدردشة.
الأحلام تسبق التكنولوجيا
ولهذا فإن كثيرا من هذه الأعمال علمت مشاهديها بشكل أو بآخر، البحث عن أفضل وسائل ممكنة للتعامل مع هذه الآليات، والخروج من تجربة التواصل الافتراضي بلا خسائر تؤثر سلبا في شخصيتهم ومهارتهم وتعاملهم اليومي، ومن أبرزها، فيلم Her الذي جسد تجربةالوقواع في غرام الخوارزميات حرفيا من خلال قصة شديدة الشاعرية والقتامة، ويستكشف فيلم Bicentennial Man رحلة آلة تحاول اقتباس صفات البشر، كما يعتبر Ex Machina من الأفلام التي لا تنسى في عالم البرمجة الخطرة، أما ـ The Matrix فقد قلب الموازين في سينما الخيال العلمي منذ عرض الجزء الأول عام 1999، وكذلك فيلم A.I. Artificial Intelligence الذي اختار له ستيفن سبيلبرج عنوانا مباشرا تماما، لقصة تعبر عن فوضى امتلاك الروبوتات لمشاعر تضاهي نظيرتها البشرية، وأيضا The Terminator بجزأيه الأول والثاني، كما جسد I, Robot الحياة الإلكترونية التي تصبح مسرح جرائم، ورغم أن فيلم Dune يعتبر من أحدث تلك الأعمال والذي عرض في عصر يلمس فيه الجمهور تأثيرات ثورات الذكاء الاصطناعي، ولكنه أيضا استطاع أن يتجاوز الحدود بالخيال العلمي المظلم الذي يغذي الصراعات.

الممثل والطبيب مينا النجار مدير ومؤسس مهرجان ميدفيست، الملتقى الدولي الذي يقام في مصر ويعرض أفلاما قصيرة، ويبحث في علاقة السينما بعالم الطب، والذي ركز من خلال أنشطة وندوات عدة على السينما والصحة يرى أن مبدعي السينما لم يكن هدفهم الاستشراف بحد ذاته، وإن كانت بعض الأفكار الجامحة التي قدمت في الأفلام تظهر كأنها تنبؤ حتى لم يكن له أسس علمية وقتها، بل إن بعض هذه الأعمال قد تكون أوحت لبعض علماء التكنولوجيا ابتكاراتهم التي حققت نجاحا وانتشارا كاسحا، ويوضح النجار وجهة نظره بالقول: "الهم الذي يشغل السينمائي عادة هو التعبير عن خياله الحر، وعديد من الأفلام التي تنتمي لعالم الخيال كانت تبحث في فكرة العزلة والوحدة التي تسيطر على نمط المعيشة، والتكنولوجيا هنا كانت تملأ هذا الفراغ، وتحاول سد الفجوة، والمشاهد من جهته يذهب للسينما للاستمتاع، ولكنه يستفيد لاشعوريا أيضا، ويتعلم ويصبح أكثر وعيا".
الطب النفسي والسينما رفيقان
بعض الأعمال التي ناقشت مستقبل التكنولوجيا من الجانب الوجداني والأخلاقي وحتى العسكري بدت مرعبة ومظلمة بالنسبة للبعض، ولهذا يرى مينا النجار المهتم بتأثيرات السينما في الصحة النفسية، أن التأثيرات تتفاوت من شخص إلى آخر وفقا لتجاربه الشخصية، وخاصة أن الواقع قد يصبح في مرحلة ما أسرع من الإنتاجات الفنية ذات الصلة، ولهذا يقول إنه ينبغي على كل فرد أن يعمل على اكتساب مهارات التأقلم والنجاة، ففي بعض الحالات تصبح السينما فقط، غير كافية للتمهيد على الرغم من دورها القوي جدا، بل يكون الوضع بحاجة إلى عوامل مساعدة معها أيضا.

من هذا الجانب تبرز أهمية المبادرات التي تحاول تثقيف الجمهور حول هذه الجوانب، وبينها ملتقى ميدفيست الذي انطلق عام 2017، وهو الأول من نوعه في الوطن العربي وشمال إفريقيا، ويسعى حاليا لشراكات دولية وإقليمية في المضمار نفسه، حيث يقدم فعالياته على مدار السنة، من خلال تنظيم حوارات مفتوحة حول التأثيرات النفسية والمجتمعية للأفلام، وعن هذه الفلسفة يشير مؤسسه مينا النجار، أن الفنون معتمدة بشكل أساسي على فكرة تحليل الحكايات التي ترصدها الأفلام، والتي تستخدم عادة لغات تعبيرية مختلفة لتسرد الواقع الإنساني، مضيفا أن الطب أيضا يقوم بالوظيفة نفسها، وهي تحليل المعلومات المستخلصة لمساعدة شخص ما على تجاوز أزماته، فالفنون والطب لديهما مشتركات كثيرة.