جوني ديب

جوني ديب: عودة طائر العنقاء إلى سماء هوليوود

إيهاب التركي
30 أكتوبر 2025

في لقاءاته التلفزيونية، يجلس جوني ديب هادئًا دمثًا. أكثر ما يُلفت النظر فيه ملابسه البعيدة عن البهرجة واكسسواراته الفنية والوشوم التي تُزيّن جسده. خلف هذه الصورة المُلفتة، يبدو مجرد رجل عادي، ربما فنانًا بوهيميًا مُتواضعًا ومغمورًا، يعمل خلف الكواليس. عيناه الحزينتان تخبران قصة رجل حساس خجول تعثّر في دروب الحياة دون أن يثير الانتباه. صوته منخفض، كريح خفيفة تهمس بين أوراق الشجر اليابسة، دون أن تجرؤ على تحريكها من مكانها. لا يزعج أحدًا، ويحرص على استمرارية السلام الذي يحيط به. يُشبه الشخصيات الثانوية في روايات دِيكنز التي تختبئ خلف الستائر، غير مُلهِمة للثورة أو الإعجاب.

ساحر الشخصيات

لكن أمام الكاميرا، يحدث التحول السحري: يصبح جوني ديب عاصفةً من الجنون الجذاب، ينفخ الحياة في أرواح غريبة الأطوار كأنها أشباح تُبعث من مقبرة الروتين. إنه كالساحر الذي يُطلق تعويذةً تُحوّله إلى وحشٍ يرقص على مسرح الخيال. يجمع بين البراءة المؤلمة والفوضى الجامحة. هذا التناقض هو سرّ جاذبيته، ففي عالم السينما حيث يُقاس النجاح بقدرة النجم على التلاشي داخل الشخصية، يبرز ديب كفنانٍ يرسم لوحاته بدمائه، مُذكّرًا بأن العبقرية تكمن غالبًا في الظلال الهادئة التي تُنجب الوحوش الجميلة.

دوره المنتظر في فيلم "إبينيزر: ترنيمة عيد الميلاد" يدعو إلى التأمل، فهو اقتباس جريء من رواية تشارلز دِيكنز الخالدة. يُجسد شخصية سكروج البخيل، الرجل الذي يُقفل قلبه كخزنة حديدية. ربما يُشكل الدور إضافةً قوية لترسانة ديب من الشخصيات الغريبة، التي أجاد تجسيدها كالقرصان جاك سبارو، صانع القبعات في عالم أليس، سويني تود الحلاق السفاح لشارع فليت، وغيرها من شخصياته المجنونة التي احتلت مكانها في متحف أشهر الشخصيات السينمائية. هذا الدور قد يُشكل عودةً قوية بعد سنوات من الغياب الذي ألقى بظلاله على حضوره السينمائي إثر فوزه بقضية التشهير أمام أمبر هيرد في 2022.

ر

جذور الغرابة

بدأ جوني ديب رحلته كظلٍ باهت في أزقة هوليوود، شابٌ طموح في العشرينيات يُكرِه نفسه على تجسيد دور البطل الرومانسي في مسلسل  "21 jump Street" لكنه سرعان ما أدرك أن النجاح الحقيقي يكمن في التمرد. كان بزوغه كنجمٍ فني حقيقي في فيلم  "Edward Scissorhands" عام 1990، حيث جسّد الشاب ذا المقصات اليدوية كطفلٍ بريء يسعى إلى الجمال لكنه ينتج الجراح. هذا الدور، الذي أخرجه تيم بيرتون، لم يكن مجرد قفزة؛ بل كان انفجارًا لموهبة تُفسّر الإنسانية من خلال التشويه. نجح العمل، مُثبتًا أن ديب يمكنه تحويل الغرابة إلى حكاية سينمائية تأسر الجمهور وتُبكيه.

س

البراءة الخام التي أضفاها ديب على شخصياته جعلته رمزًا للشباب المتمرد، كأنه يعلن حربًا على الصور النمطية. في "Edward Scissorhands"، يُشكّل حدائق الجيران بمقصاته كفنانٍ يعارض المألوف، فبنى نجاحه الفني قاعدةً جماهيرية تُقدّر الشخصيات الخيّرة غريبة الأطوار.

التركيز المبكر على الغرابة أدى إلى حبس ديب في دور "الفتى الغريب"، مُعرّضًا إياه للنقد بأنه يكرر نفسه. في "Cry-Baby" عام 1990، على سبيل المثال، كان الدور كوميديًا مضحكًا لكنه لم يحقق نجاحًا كبيرًا، حيث اعتُبر مجرد تكرارٍ للتمرد السطحي خاليًا من العمق الدرامي.

هذه المرحلة، التي امتدت من أواخر الثمانينيات إلى التسعينيات، كانت كبذرةٍ تتفتح على الشاشة، مُهيّئةً ديب مكانةً كممثلٍ قادرٍ على تحويل الأحلام المحطمة للشخصيات الهشة الغريبة إلى أيقوناتٍ خالدة.

ب

جاك سبارو ومجانين أخرين

جوهر فن ديب يكمن في قدرته على تجسيد الغرباء، أولئك الذين يعيشون على هامش العالم. لقد أبدع في دور القرصان جاك سبارو في سلسلة "Pirates of the Caribbean" من 2003 إلى 2017. حول البحار المشرد إلى شخصيةٍ أيقونيةٍ مرحةٍ تجمع بين الخداع والبراءة. وفي "Edward Scissorhands"، كان طفلًا مشوهًا ينسج جمال العالم من خلف جروحه وقبحه. أما سويني تود، الحلاق في "Sweeney Todd" عام 2007، فكان نحاتًا للأرواح يقطع أجساد البشر بشفرته الحادة.

الجاذبية المضطربة التي ينفخها ديب في شخصياته تحولها إلى لوحاتٍ شعريةٍ، كأنه يستخدم الكاميرا كقلمٍ يرسم الألم بألوان الفوضى. في "قراصنة الكاريبي"، حقق ديب المستحيل بالجمع بين النجاح التجاري والفني، لأن سبارو لم يكن مجرد قرصانٍ يقوم بمشاهد أكشن استعراضية، بل رمزًا للحرية المتأرجحة بين العبث والحكمة. الغرق في الغرابة أحيانًا يضعف العمق العاطفي، مُحوّلًا الشخصية إلى كاريكاتيرٍ سطحي. في "Alice in Wonderland" عام 2010، كان صانع القبعات مضحكًا لكنه لم يُثر التعاطف، لأن الفوضى البصرية غطّت على وهج المشاعر. وفي "Dark Shadows" عام 2012، أدرك ديب المصير المأساوي للشخصية، لكنه لم يتعمّق في تصوير جرحها الإنساني.

ك

سكروج البخيل 

في "إبينيزر: ترنيمة عيد الميلاد"، المقتبس من رواية دِيكنز "ترنيمة عيد الميلاد" عام 1843، يُجسد ديب إبينيزر سكروج، البخيل المستعبد الذي يغلق قلبه كخزنة حديدية. تأتيه أشباح الماضي والحاضر والمستقبل ليناضل من أجل فرصةٍ ثانية. الفيلم، المرشح لإخراجه تي ويست، المعروف بالثلاثية  "X" : "X"، "Pearl"، و"MaXXXine"، يُتوقع أن يحول القصة إلى حكاية أشباحٍ مثيرة في لندن القرن التاسع عشر. ويست، القادم من عالم الرعب البصري، قد يجعل الأشباح ليست مرعبةً فحسب، بل مرآةً تعكس الجرح الإنساني وصراعه مع ماضيه وحاضره، وهي تركيبة مثالية تليق بشخصية جوني ديب الفنية.

الفيلم إنتاج باراماونت بيكتشرز، وتاريخ إصداره المُعلن 13 نوفمبر 2026، ويشارك فيه أندريا ريزبورو في دورٍ غير معلن حتى الآن. السيناريو كتابة ناثانييل هالبرن. هذا أكبر أدوار ديب في هوليوود بعد أن جسّد شخصية جاك سبارو للمرة الأخيرة عام 2017 في فيلم "Pirates of the Caribbean: Dead Men Tell No Tales".  يدخل ديب منافسةً غير مُعدة مع الممثل ويليام دافو، الذي يُتوقع أن يُجسد شخصية سكروج في مشروع سينمائي آخر، إخراج روبرت إيجرز. أمام جوني ديب فرصة لتحويل حكاية سكروج إلى ملحمةٍ إنسانيةٍ ساخرة ترصد رحلة الخلاص من قسوة المشاعر. سكروج يتسم بتعقيدٍ يليق بديب، فهو ليس بخيلًا أصيلًا، بل ناجٍ من جرح خيانةٍ قديمة تركت عاهة في سلوكه ومشاعره، كأن أشباحه مرآةٌ لأشباح ديب الحقيقية بعد جروح مأساة زواجه وطلاقه وقضية التشهير.

ب

في سماء هوليوود

قبل قضية التشهير الأخيرة، أُتهم جوني ديب بتعنيف زوجته السابقة أمبر هيرد، مما تسبب في مقاطعة جماهير لأدواره السينمائية. فيلمه Minamata لم يحظَ بنجاح. بعد فوزه في قضية التشهير أمام أمبر هيرد في يونيو 2022، استمر خفوت حضور ديب السينمائي، فتحوّل إلى الأفلام المستقلة. في عام 2023، جسّد دور لويس السادس عشر في الفيلم الفرنسي "Jeanne du Barry"، لكنه لم يُحقق نجاحًا ماديًا أو نقديًا كبيرًا. وتكرر الأمر مع فيلم "Modì" الذي أخرجه ديب، وتناول جزءًا من سيرة الفنان الإيطالي موديلياني، بمشاركة آل باتشينو في البطولة، لكن عروض الفيلم السينمائية كانت محدودة.

ت

بالإضافة إلى "إبينيزر: ترنيمة عيد الميلاد"، يُنتظر عرض فيلم آخر لجوني ديب في العام القادم بعنوان "Day Drinker" أمام بنيلوبي كروز. الفيلم من نوعية كوميديا الجريمة والإثارة، حيث يجسّد ديب دور شخصًا غامضًا يرتبط بنادلة تتألم لفقدان حبيبها، لكن حياتهما تتشابك بصورة غير متوقعة. تبدو فكرة واعدة لفيلم جيد، لكن علينا الانتظار مع الجماهير المخلصة لديب، ومنهم أكثر من 300 مليون متفرج لسلسلة "Pirates"، وفقًا لإحصائيات Disney.

قد يكون 2026 عام عودة طائر العنقاء جوني ديب، الذي أحرقته نيران علاقة زوجية سامة، ليُحلّق من جديد فوق سماء هوليوود التي خاصمها وخاصمته سنوات.

جوني ديب ليس مجرد ممثلٍ، بل ظاهرة ثقافية، نجمٌ يتألق بين ظلال شخصياته، رمزًا للإنسان الذي يُحلّق بجناحيه المكسورين. دوره القادم قد يُشكل الفصل الأخير في رحلته الفنية، أو بدايةً جديدةً لفنانٍ لا يزال يحمل أحلامًا محطمةً يحولها إلى أيقوناتٍ.

ب