رحيل النجم الهادئ: إرث روبرت ريدفورد يتجاوز وسامته
بنى روبرت ريدفورد مسيرته الفنية كصخرة تقاوم العواصف، كأنها جبال يوتا بصخورها المتحدرة وغاباتها الهادئة، هذه المدينة ذات المشاهد الرصينة الهادئة شديدة الجمال، تعكس شخصيته وتتناغم معها. ربما لهذا اختارها كمكان للتقاعد والتأمل. ولد ريدفورد في 18 أغسطس 1936 في سانتا مونيكا، كاليفورنيا، لأب يعمل محاسبًا في شركة نفطية وأم من أصل سويسري، كان ذلك الشاب الشقي الذي سرق غطاءات السيارات في المدرسة الثانوية، وفقد منحة جامعة كولورادو في البيسبول بسبب الإفراط في الشرب. ومن هناك، من بداياته الفنية في الرسم والمسرح، إلى قمة النجومية في هوليوود كممثل، ثم كمخرج ومنشئ صاندانس، أحد أهم المهرجانات السينمائية، ومناضل بيئي، ريدفورد لم يكن مجرد نجم هوليوودي سطحي؛ كان رمزًا للأناقة الهادئة والالتزام والعمق. توفي في 16 سبتمبر 2025 عن 89 عامًا، في دياره بيوتا، حيث أحب أن يستريح.
من الشوارع الشقية إلى أضواء المسرح
كانت بدايات ريدفورد كطفل شقي في شوارع سانتا مونيكا، لكن من بين هذه الفوضى، برزت بذور موهبته كزهرة تنبت في صخر الواقع. في الخمسينيات، درس الرسم في معهد برات والمسرح في الأكاديمية الأمريكية للفنون الدرامية، وسافر إلى أوروبا ليستكشف نفسه، قبل أن يعود ليبدأ التمثيل في التلفزيون مع مسلسلات مثل Maverick وPerry Mason في 1960. أول دور سينمائي له كان في War Hunt (1962)، لكنه حقق الشهرة على مسارح برودواي في Barefoot in the Park (1963)، حيث لعب دورًا رومانسيًا أضاء مسيرته، وقدمه إلى هوليوود عندما أعاد تقديم دوره في فيلم يحمل الاسم نفسه أمام جين فوندا. نفس الدور قدمه عادل إمام في 1979، في فيلم مصري مقتبس بعنوان "خلي بالك من جيرانك". هذه البدايات كانت كجذور قوية، فتنوع تجاربه - الرسم، المسرح، التلفزيون - أعطته أبعادًا عميقة، مما جعله يقدم أداءً سينمائيًا يجمع بين الرقة والقوة.
على سبيل المثال، دوره في Inside Daisy Clover (1965) كان لوحة سينمائية دافئة، مفعمة بالعواطف، لرجل يحمل قلبًا شاعريًا، بينما The Chase (1966) أظهر قدرته على الغوص في بحر الدراما الهائج. التحدي كان في قيود الانطباعات الأولية، إذ تقيّد بأدوار الشاب الوسيم، فشعر أن الوسامة كالجبال، حاجزًا يتطلب اجتيازه بالصبر.

قمم النجاح ورياح التحول
مسيرة ريدفورد كانت كسلسلة جبال ممتدة في الأفق، ترتفع وتهبط، لكنها دائمًا تظل شاهقة. في السبعينيات، بدأت القمم تتشكل مع Butch Cassidy and the Sundance Kid (1969) إلى جانب بول نيومان. رقص الثنائي في حلبة الغرب المتوحش، فأصبح العمل رمزًا للصداقة الخالدة. تلاه The Candidate (1972)، الذي نال ترشيحًا للأوسكار كأفضل فيلم، وThe Way We Were (1973) مع باربرا سترايسند، حيث كانت كل لقطة كأغنية حب تتردد في القاعات. في الثمانينيات، Out of Africa (1985) جعله نجمًا عالميًا، بينما كان التحول الكبير مع إخراجه Ordinary People (1980)، الذي فاز بأوسكار أفضل مخرج، كأنه فتح نافذة جديدة لروحه. في التسعينيات، A River Runs Through It (1992) كان كنهر يروي الروح الأمريكية، وQuiz Show (1994) نال أربعة ترشيحات للأوسكار، مما أظهر براعته كمخرج. في الألفية الجديدة، The Company You Keep (2012) وAll Is Lost (2013) أضاءا مسيرته كنجم يرفض الاستسلام، لكن في 2018، أعلن تقاعده مع The Old Man & the Gun، كأن الجبال دعت روحه للراحة بعيدًا عن الأضواء الباهرة.

مهرجان صاندانس: نبض الروح المستقلة
تأسس مهرجان صاندانس في 1978 تحت عنوان مهرجان يوتا، قبل تغيير إسمه عام 1981 إلى إسمه الحالي، تيمنا بإسم شخصية صاندانس كيد، التي أداها روبرت ريدفودرد في فيلم Butch Cassidy and the Sundance Kid. كان المهرجان قمة راسخة في صرح مسيرته الفنية، كأنه نبع جديد، روى الصحراء السينمائية ومنحها وسيلة لإزهار إبداع أكثر أصالة. في يوتا، حيث أحب أن يعيش، أسس ريدفورد هذا المهرجان لدعم السينما المستقلة، مستوحيًا من شغفه بالطبيعة وحرصه على إعطاء صوت للمبدعين الجدد. بدأ كرؤية بسيطة، لكنه تحول إلى منصة عالمية، حيث أطلق أفلامًا أيقونية مثل Little Miss Sunshine (2006)، Whiplash (2014)، وThe Farewell (2019)، تلك الأعمال التي حصدت جوائز وأضاءت أسماء جديدة. في 2025، أصبح المهرجان رمزًا للإبداع، مع حضور سنوي يتجاوز 50 ألف زائر. كان صاندانس كحقل ينبت الأحلام، حيث منح المخرجين المستقلين فرصة للتحليق، كما في Get Out (2017) الذي أطلق جوردان بيل. لكن العقبات المالية جعلته يعاني من تقلبات وأزمات نقص التمويل في بعض السنوات. ريدفورد كان يرى المهرجان ابنًا روحيًا، وقال في إحدى المقابلات إن صاندانس ملاذ يشعر فيه بأن الفن لا يزال حيًا.
النجومية بين الوسامة والعمق
قدرته ساحرة في الجمع بين الجمال والعمق، كما في Out of Africa حيث كان البارون دينيس رمزًا للحرية الروحية. لكنه ظل يعاني تكرار صورة "الوسيم الهادئ"، كما في The Great Gatsby (1974)، حيث كان الجمال يطغى على التعبير. أداء ريدفورد الهادئ كان يخفي قوة داخلية. في Butch Cassidy and the Sundance Kid، كان مثل راقص جريء يتحدى الزمن، بينما في The Sting (1973) أظهر ذكاءً كأنه لعبة شطرنج سينمائية. كمخرج، فيلمه Ordinary People كان كمرآة تعكس ألم الأسر، حيث أظهر عمقًا عاطفيًا يمس القلب. في All Is Lost (2013)، كان وحده في البحر، صوت صموده يتردد كصخور صلبة تتحدى عبث الأمواج الثائرة. تعبيراته الصامتة تحكي كل شيء عن رجل يشعر بالألم ويتعلق بطوق الأمل. أعماله البارزة كانت كسيمفونيات ملحمية تصدح في قاعات السينما، من Butch Cassidy and the Sundance Kid الذي حقق نجاحًا تجاريًا هائلًا وأسس صداقته مع نيومان، إلى The Sting (1973) الذي نال سبعة جوائز أوسكار كتحفة في سرد حبكة خداع ملهمة. كمخرج، Ordinary People (1980) فاز بأربعة جوائز أوسكار، بينما Quiz Show (1994) نال أربعة ترشيحات كفيلم ينبش في الفساد. A River Runs Through It (1992) كان كنهر يروي الروح، وAll Is Lost (2013) كان صرخة صامتة، نالت ترشيحًا للأوسكار. أفلام مثل All the President's Men (1976) كانت كشافًا ينير الخداع وأكاذيب السياسة.

إرث الفنان والإنسان
حياة ريدفورد الشخصية كانت كأنغام بيانو، مليئة بالفرح والألم. تزوج لولا فان فاجينين في 1958، وأنجبا أربعة أطفال، لكن فقدان ابنه الرضيع سكوت أنتوني المفاجئ في 1959 ، بعد أسابيع من ولادته، كان كطعنة في القلب. هذه التجربة شكلت جزءًا من شخصيته الثابتة، الهدوء الصامد والألم النبيل، وانعكست على أعماله، كما في Ordinary People الذي عكس الألم الأسري. انفصل عن زوجته الأولى في 1985، وتزوج سيبيل ساجارس في 2009. كان والدًا حنونًا، وداعمًا لأبنائه في الفنون، مثل ابنته شاون الرسامة وجيمس الكاتب. فقدان ابنه سكوت ظل يصاحبه في كل سنواته، فأصبح محبًا للهدوء والخصوصية، مما جعله يبدو متعاليًا في عيون بعض الجمهور. على جانب النشاط الاجتماعي، كان ريدفورد محبًا للطبيعة، يدعم قضايا البيئة، مثل الطاقة المتجددة والحفاظ على الغابات، وشارك في حملات ضد تغير المناخ، شارك كراوي في فيلم Sacred Planet (2004) المدافع عن البيئة، ونقد الرأسمالية في فيلم The Candidate (1972). تأثيره الشخصي والفني كان كشجرة تنمو في الصحراء، لكن انتقاداته الحادة جعلته يبدو متعاليًا أحيانًا.
كاريزما روبرت ريدفورد أكثر من مجرد بريق نجومية ممثل أشقر وسيم، كان هادئًا كنسيم يعبر الوديان، هادئًا لكنه يترك أثرًا لا يُمحى في وجدان المشاهد. لم يكن نجمًا يلمع ببريق عابر، بل كان منارةً تنير دروب الفن والإنسانية. على الشاشة، كانت عيناه تحملان حكايات العالم، تجمع بين همس العاشق وثبات المحارب، بينما في صاندانس زرع بذور الإبداع لتزهر أحلام جيلٍ جديد. كان صوتًا للأرض، يغني للغابات وللأنهار، مدافعًا عن الطبيعة بقلبٍ ينبض بالمسؤولية. ريدفورد، الرجل الذي عاش بكرامة وغادر بهدوء، ترك إرثًا كالجبال التي أحبها: شامخًا، خالدًا، يتحدى الزمن، روحٍ عاشت لتُلهم الفن والإنسانية.

