
نغم متميز: ريماز العقبي تروي لـ "هي" رحلتها كأول عازفة فلوت سعودية
كما تبدأ المقطوعة بنغمة أولى تُمهّد للّحن، امتدادًا لمقالة "نغم متميز" المنشورة في عدد شهر يونيو من مجلة هي، والتي سلّطت الضوء على سعوديات يُعدن كتابة النوتة الموسيقية لمسيرة الفن المنفرد في المملكة. في هذا اللقاء، نواصل الإصغاء ولكن هذه المرة إلى صوت ريماز: أول عازفة فلوت سعودية وإحدى أوائل مغنيات الأوبرا، التي تحوّلت تجربتها الشخصية إلى معزوفة تمزج بين الأصالة والحداثة، التقاليد والجرأة، الصوت والصمت.
كيف بدأت رحلتك مع الموسيقى؟ ومتى شعرتِ للمرة الأولى أن هذا المجال سيكون جزءًا من مستقبلك؟
بدأت رحلتي مع الموسيقى عندما كنت في السابعة من عمري في كاليفورنيا. كنت محظوظة بالالتحاق بأكاديميات للفنون الأدائية لم تعتبر الموسيقى نشاطًا إضافيًا، بل لغة قادرة على التعبير عبر الثقافات والعواطف. أتذكر جيدًا أول مرة دخلت فيها غرفة الكورال؛ كانت التناغمات تحيط بي كجلدٍ ثانٍ. لم تكن هناك لحظة "مصباح مضيء" جعلتني أقرر أن هذا مستقبلي، بل كانت همسات متتالية تحوّلت إلى جوقة لم أعد قادرة على تجاهلها. الأمر لم يكن مجرد حبٍ للموسيقى، بل بحث عن انتماء، عن صوتي في عالم غالبًا ما يكتب للفتيات نهايتهن قبل أن ينطقن بالبداية.

هل تتذكرين أول آلة عزفتِ عليها أو أول مقطوعة أثّرت فيكِ؟ ومتى دخل الفلوت حياتك؟
دخل الفلوت حياتي وأنا لا أزال في المرحلة الابتدائية، وكان عمري نحو الثامنة. اخترته لأن صوته أسرني؛ كان يذكرني بالرياح، بالحرية، وبشيءٍ قديم في آنٍ واحد. قبل الفلوت، كانت آلة التعبير الأولى هي صوتي، من خلال الغناء في فرق الكورال المدرسية، وهذا ما شكّل أساس فهمي العاطفي للموسيقى. لكن الفلوت منحني وسيلة للتعبير عن عالمي الداخلي بطريقة لا تستطيع الكلمات أن تترجمها. عندما تعلّمت لاحقًا مقطوعة Debussy – Syrinx، شعرت وكأني ألتقي بجزء مني لم أكن أعلم بوجوده.
بعيدًا عن الفلوت، كانت مسيرتي الموسيقية غنية بالتجارب من عدة أنماط: المسرح الغنائي، فرق المشاة، المارياتشي، الجاز، الـR&B، وكل ما استطعت استكشافه. كنت دائمًا أؤمن أن أول واجبات الموسيقي الحقيقي هي أن يصغي — لأي شيء، لكل شيء.
بصفتك أول عازفة فلوت سعودية وواحدة من أوائل مغنيات الأوبرا في المملكة، كيف واجهتِ التحديات الثقافية والمجتمعية في هذا الطريق الريادي؟
أن تكون "الأولى" ليس امتيازًا فقط، بل مسؤولية أيضًا، وثقلًا أحيانًا. لكن في المقابل، هو هدية عظيمة لأنكِ تعيدي تعريف الممكن.
تجاوز التحديات تطلّب مني البحث عن القوة في المجتمع، في الصداقة، في صمت النساء اللواتي فتحن الطرق في مجالات أخرى. نعم، واجهت شكوكًا، من المجتمع وأيضًا من نفسي. لكن في كل مرة وقفت فيها على المسرح، خاصة مع الأوركسترا الوطنية السعودية، كنت أُذكِّر نفسي أن التمثيل ليس ترفًا، بل ضرورة.
قصتي ليست قصتي وحدي، بل جزء من سردية وطن يعيد اكتشاف علاقته بالفنون. وتكوين صداقات عميقة داخل المجال، مثل صداقتي مع أمجاد وبُشرى، كانت من أبرز محطات دعمي. في النهاية، الموسيقى لغة تتحدث بها الأرواح المتشابهة. وعندما ندعم بعضنا كنساء، نصبح أقوى. ما أقوم به اليوم لا أفعله لنفسي فقط، بل لهنّ، لنا، وللجميع.
فوزك بجائزة BraVo لأفضل مؤدية كلاسيكية في روسيا كان لحظة مفصلية. كيف استقبلتِ هذا التكريم؟ وكيف غيّر نظرتك لنفسك كفنانة؟
حين حصلت على جائزة BraVo في روسيا، كان الأمر أشبه بالحلم. ليس فقط بسبب مكانة الجائزة عالميًا، بل لأنني شعرت أنني لا أمثل نفسي فقط، بل أمثّل أحلام الفتيات السعوديات اللواتي لم يرَين أنفسهن يومًا في عالم الموسيقى الكلاسيكية.
حينها أدركت أن فني لا يقتصر على الأداء فقط، بل على "الوجود". هذه اللحظة منحتني الثقة في أن أحلم أكبر، أن أبحث عن تقاطع التميّز والتأثير، وأن أرى نفسي كفنانة وسفيرة ثقافية وصانعة تغيير في آنٍ واحد.

قدّمك برنامج Octave للجمهور كصوت مثقّف وقيادي في مجال نخبوي. كيف ترين دور الإعلام الثقافي في الارتقاء بالفنون الكلاسيكية؟
برنامج Octave كان حلمًا لم أكن أعلم أنني أحتاجه. منصة أتحدث فيها إلى جمهور قد لا يكون التقى بالموسيقى الكلاسيكية من قبل، وأدعوهم للدخول من باب الدفء والفضول لا من بوابة النخبوية والتعقيد.
الإعلام الثقافي، حين يُدار بطريقة صحيحة، يمتلك قدرة هائلة على ديمقراطية الفنون. يمكنه أن يقرّب ما يُرى كنخبوي ويجعله حميميًا. عبر هذه المنصة، استطعت الجمع بين التثقيف والمتعة، بين الحكاية والمعرفة. وأؤمن أن هذا هو مستقبل الموسيقى الكلاسيكية في منطقتنا — ليست محصورة في قاعات الحفلات، بل حيّة في الحوارات، في الصفوف الدراسية، في الأحياء.
كيف توازنين بين الأداء الكلاسيكي الغربي وهويتك السعودية؟ وهل ترين أهمية لبناء هوية غنائية سعودية داخل هذا النوع؟
الموازنة بين الموسيقى الكلاسيكية الغربية وهويتي السعودية ليست تضادًا بل تزاوجًا. لا أراهما قوتين متناحرتين، بل خيوطًا يمكن نسجها لابتكار شيء جديد وضروري. أؤمن تمامًا بضرورة وجود صوت سعودي خاص في عالم الموسيقى الكلاسيكية — ليس فقط في اللغة والمحتوى، بل في النهج. نملك قرونًا من الشعر، والمقامات، والحكايات، والإيقاعات التي لم تُستثمر بعد بشكل كامل في هذا السياق.
عملي الآن يركّز على بناء الجسور — فنيًا وإداريًا — حتى لا يضطر الجيل القادم للاختيار بين التميّز والهوية.