مسلسل بريستيج

خاص "هي": مسلسل "بريستيج".. لغز بوليسي بأجواء أجاثا كريستي تحول إلى هذيان درامي

إيهاب التركي
31 مايو 2025

نشرت الكاتبة أجاثا كريستي روايتها الأيقونية "And Then There Were None" ("ثم لم يبقَ أحد") في نوفمبر عام 1939، وهي رواية بوليسية من نوعية لغز الغرفة المغلقة؛ مجموعة أشخاص محاصرون في عزلة قسرية وجرائم قتل متوالية غامضة. عندما ننظر إلى حبكة مسلسل "بريستيج" في حلقاته الأولى، نجد أنفسنا أمام ظلال واضحة لهذه الرواية؛ كلا العملين يبدأ بفكرة العزلة القسرية: في الرواية، يُدعى عشرة أشخاص إلى جزيرة نائية تحت ذرائع واهية، ويُعزلون نتيجة عاصفة، بينما في "بريستيج"، يُحتجز 14 شخصية داخل مقهى بالقاهرة، وسط عاصفة تقطع الكهرباء وتعزلهم عن العالم الخارجي. الفكرة جذابة وألهمت الكثير من الأعمال الروائية والدرامية.

الغموض المفقود

هذا الفضاء المغلق يشكل أرضية مشتركة للغز البوليسي، حيث تبدأ الجرائم بالتكشف: في الرواية، يُقتل الضيوف واحدًا تلو الآخر وفقًا لقصيدة شعرية غامضة، بينما في المسلسل، تُكتشف جثة أولى تُشعل فتيل الشك بين الشخصيات. التشابه يمتد إلى بنية الشخصيات نفسها، فكلا العملين يقدمان مجموعة متنوعة من الخلفيات الاجتماعية والنفسية، من الطبيب إلى الجندي إلى الخادمة في الرواية، ومن صاحب المقهى إلى الموظف إلى الزائر الغامض في المسلسل، مما يخلق ديناميكية من التوتر والاشتباه المتبادل. لكن، بينما حافظت كريستي على إيقاع مشدود يتسارع مع كل جريمة، مع نهاية محكمة تكشف عن القاتل بطريقة عبقرية، انحرف "بريستيج" عن هذا المسار، حيث تحول اللغز إلى فوضى عبثية، وفقد الإحساس بالغموض الذي كان يميز رواية كريستي، ليترك المشاهد في متاهة بلا مخرج، بعيدًا عن الإثارة التي وعدت بها البداية.

مسلسل "بريستيج"
الغموض المفقود في مسلسل "بريستيج"

الإشارة إلى أجاثا كريستي جاءت من خلال صورتها المطبوعة على غلاف أجندة ملاحظات ورسومات تُمسك بها شخصية راندا عوض، التي قدمت كاراكتر السيدة التي تتولى التحقيق في الجريمة. المسلسل تأليف إنجي أبو السعود، إخراج عمرو سلامة، وإنتاج شركة "ذا بلانت ستوديوز"، وعرض عبر منصة "يانجو بلاي". بدا العمل في البداية كحكاية بوليسية مشوقة تجمع 14 شخصية من خلفيات اجتماعية متباينة داخل مقهى خيالي في وسط البلد، حيث تعصف بهم عاصفة قاهرية تنقطع معها الكهرباء لتكشف عن جريمة قتل. الفكرة، مستوحاة من أجواء مقاه عريقة مثل "كافيه ريش" و"جروبي"، كانت بمثابة دعوة للانغماس في لغز مثير في مكان يحمل عبق تاريخي خاص. مع تقدم الحلقات الثماني، تحول المسلسل تدريجيًا إلى حبكة عبثية تفتقر الإثارة والجاذبية، خاصة في حلقات "الهذيان الجماعي" التي جاءت طويلة دون داعٍ وطغت على السرد وأضعفت بنية العمل الفنية.

مسلسل "بريستيج"
روح رواية أجاثا كريستي "And Then There Were None" حاضرة في مسلسل "بريستيج"

من التشويق إلى الضياع

تبدأ حبكة "بريستيج" بمشهد قوي يجمع 14 شخصية داخل مقهى "بريستيج"، حيث تعصف عاصفة بمدينة القاهرة، تنقطع الكهرباء، ويكتشف الجميع جثة أحد النزلاء. الفكرة الأولية تبشر بمسلسل بوليسي يعتمد على أسلوب "من فعلها؟"، حيث يتولى كل شخصية دورًا محتملاً في الجريمة، مما يخلق توترًا دراميًا يدفع المشاهد للتكهن. الحلقات الأربع الأولى تحمل نكهة أعمال كلاسيكية، مستمدة إيقاعها من قصص الجريمة التقليدية، حيث تتفاعل الشخصيات في حوارات تبدو واعدة، وتكشف عن خلفيات اجتماعية ونفسية متنوعة. لكن، مع الحلقتين الخامسة والسادسة، تنحرف الحبكة نحو الفانتازيا دون مقدمات واضحة، حيث تتحول الشخصيات إلى حالة من الهذيان الجماعي، تنقسم بين تصرفات كوميدية غير منطقية وأحداث غامضة تفتقر إلى الأسس الدرامية. هذا الانقلاب لم يكن مفاجأة محبوكة، بل قفزة غير مبررة جعلت المشاهد يشعر بالضياع، كمن يسير في متاهة لا تؤدي إلى نهاية. النهاية نفسها، التي كشفت عن القاتل في الحلقتين السابعة والثامنة، لم تقدم حلًا مرضيًا، بل بدت كمحاولة يائسة لإغلاق قصة فقدت بريقها. هذا التحول يعكس ضعفًا في تصميم السيناريو، حيث بدا وكأن فريق العمل لم يستطع الحفاظ على رؤية موحدة، مما أفقد العمل تماسكه.

مسلسل "بريستيج"
تفاصيل مشوقة في مسلسل "بريستيج"

خليط غير متناغم

بدا السيناريو في البداية كمحاولة طموح لخلق خليط بين الجريمة والكوميديا مع لمسة فانتازية، لكن التنفيذ كشف عن فجوات كبيرة. الحوارات في الحلقات الأولى كانت ذكية، تعكس تنوع الشخصيات من خلال اللهجات والنبرات، لكنها تلاشت تدريجيًا مع تزايد العبث. شخصيات مثل محمد عبد الرحمن ومصطفى غريب، اللذين يقودان الطاقم مع سامي مغاوري وراندا عوض، بدأت بحيوية، لكنها انزلقت إلى تصرفات عشوائية في منتصف المسلسل. على سبيل المثال، علاقة آلاء سنان بصاحب المقهى، التي كانت محطة درامية واعدة، تحولت إلى تعقيدات غير مبررة، حيث لم يقدم السيناريو تفسيرًا منطقيًا لتصرفاتها، سواء في اتهامها له بالخيانة أو ارتباطها السري به. هذا الضعف يعزى إلى افتقار السيناريو إلى بنية درامية متماسكة، حيث بدا الانتقال من التشويق إلى الكوميديا السوداء ثم الفانتازيا كتجربة تجريبية فشلت في التوفيق بين عناصرها. لم يمنح السيناريو مساحة كافية لتطوير الشخصيات أو تفكيك اللغز بذكاء وتمهيد كافٍ، مما جعل النهاية تبدو مفاجئة ومفتعلة، كأنها وضعت لمجرد إنهاء القصة دون عمق، أو كأن السيناريو تعامل ببخل مع المشاهد؛ فقرر تركه في الضباب طوال الحلقات دون التمهيد لدوافع القاتل.

مسلسل "بريستيج"
أبطال مسلسل "بريستيج"

الممثلون حائرون

طاقم التمثيل، الذي يضم أسماء مثل محمد عبد الرحمن ومصطفى غريب وبسام رجب وآلاء سنان، بدأ بأداء واعد يعكس تنوع الشخصيات. عبد الرحمن قدم حضورًا قويًا كشخصية مركزية تحمل عبء اللغز، بينما أضاف غريب لمسة كوميدية خفيفة أنارت المشاهد الأولى. لكن، مع تقدم الحلقات، بدا الأداء متعثرًا، خاصة أن محمد عبد الرحمن بدا كأنه يكمل حالة كوميدية خفيفة تشبه إعلانه الرمضاني لإحدى شركات الأثاث، ومصطفى غريب ابتكر كاراكتر المحامي محدود الإمكانيات الذي يرسم لنفسه صورة المحامي صاحب النفوذ والإمكانات الكبيرة، ثم لم يجد ما يفعله بهذا الكاراكتر في بطولة جماعية تفتقر التناغم.
الشخصيات الثانوية مثل آلاء سنان عانت من ركاكة في اللهجة السورية، مما أضعف مصداقية شخصيتها، حيث بدا إلقاؤها عبئًا على الطاقم، خاصة أن دورها كان يتطلب انسجامًا عاطفيًا مع بقية الشخصيات. سامي مغاوري وبسام رجب حاولوا إنقاذ المشاهد من خلال أداءات عفوية، لكنها لم تكن كافية للتغلب على غياب التوجيه الإخراجي الواضح. الأداء العام انعكس كمرآة للحبكة: بدأ بوعد بالإبداع ثم تلاشى في الفوضى، حيث تحولت الشخصيات من أبطال لغز إلى شخصيات حائرة تشارك في سرد عبثي غير متماسك.

مسلسل "بريستيج"
مسلسل "بريستيج"

الصورة والإخراج: بين الطموح والإحباط

من حيث الصورة، حاول عمرو سلامة استغلال الإعداد الداخلي للمقهى لخلق أجواء مشحونة، مستندًا إلى إضاءة خافتة تعزز من توتر المشاهد الأولى. المشاهد الخارجية للعاصفة كانت بصريًا جذابة، لكنها لم تُستغل كعنصر درامي فعال، بل بقيت مجرد خلفية متكررة. مع ذلك، فشلت الصورة في الحفاظ على تماسكها مع تطور الحبكة، حيث أصبحت المشاهد الفانتازية في الحلقتين الخامسة والسادسة مبالغًا فيها، مع مؤثرات بصرية رديئة بدت كإضافة متسرعة. هذا يعكس ضعف الرؤية الإخراجية، حيث بدا سلامة غير قادر على السيطرة على اللوكيشن أو توجيه الطاقم نحو هدف مشترك.

الصورة والإخراج: بين الطموح والإحباط
الصورة والإخراج: بين الطموح والإحباط في مسلسل بريستيج 

الإيقاع الدرامي كان متذبذبًا، حيث بدأ بسرعة مشوقة ثم تباطأ في مشاهد الهذيان التي طغت على السرد. قرار إدخال عناصر كوميدية وسط التوتر البوليسي لم يكن مدروسًا، مما أدى إلى انهيار الانسجام. الإخراج كان مرآة للحبكة: طموح في البداية، لكنه انهار تحت وطأة التنفيذ العشوائي.

الموسيقى التصويرية، التي كانت متوقعة أن تعزز التوتر، بقيت هامشية وغير مؤثرة، حيث لم تتمكن من إنقاذ المشاهد من الملل. الإنتاج، من خلال "ذا بلانت ستوديوز" و"يانجو بلاي"، قدم ميزانية جيدة، لكنها لم تُستغل لتحسين التفاصيل البصرية أو تطوير الشخصيات.

الصورة والإخراج: بين الطموح والإحباط
مسلسل "بريستيج"

من المؤكد أن أجاثا كريستي لن يعجبها سيناريو إنجي أبو السعود المفكك، وغرائبية إخراج عمرو سلامة، وزحام وضجيج نجوم لم ينجح منهم أحد في تقديم لمسة خاصة أو مشهد يمكن تذكره بعد نهاية المسلسل.

الصور من صفحة the planet studio.