عائشة لا تستطيع الطيران

خاص "هي" رسالة مهرجان كان 2025- "عائشة لا تستطيع الطيران" ولكن من قص أجنحتها؟

أندرو محسن
23 مايو 2025

بعد 4 أفلام قصيرة حققت نجاحات لافتة، يقدم المخرج المصري مراد مصطفى فيلمه الطويل الأول ”عائشة لا تستطيع الطيران“ المدعوم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، والذي يشارك في مسابقة نظرة ما في الدورة 78 لمهرجان كان. رحلة طويلة قطعها المخرج وكاتب السيناريو مراد مصطفى، ليصنع هذا الفيلم، سواء من خلال العمل الدؤوب على أسلوبه من خلال الأفكار والموضوعات التي طرحها في أفلامه القصيرة، أو عبر رحلة التطوير لسيناريو الفيلم نفسه والتي استمرت لفترة، رحلة جعلت ”عائشة لا تستطيع الطيران“ شديد الشبه بمخرجه وشديد البعد عنه أيضًا.

الواقع والفانتازيا

يتابع الفيلم شخصية عائشة (بوليانا سيمون) الشابة السودانية شديدة الفقر التي تعمل في الخدمة داخل البيوت، لكنها تعاني من المعاملة القاسية والاستغلال من كل المحيطين بها، سواء أرباب عملها أو الشخص الذي يؤجر لها بيتها، لتصبح حياتها عبارة عن جحيم لا ينتهي، لا خلاص منه.

في أفلامه السابقة كان واضحًا اتباع مصطفى للأسلوب الواقعي، القريب من شكل بعض الأفلام الإيرانية مثل أعمال أصغر فرهادي. يتجلى هذا في اختيار المواضيع أو في الأسلوب السينمائي المستخدم، إذ عادة ما كانت شخصياته نسائية بالأساس، وتنتمي لطبقات فقيرة وتحيا على هامش المجتمع.

هكذا كان اختيار هذا الأسلوب السينمائي يتيح له المزيد من الصدق والقرب من تلك الشخصيات، بالإضافة للقدرة على الاستكشاف لعوالم لم تُصور كثيرًا في السينما. في ”عائشة“ ينطلق مراد أيضًا من هذا العالم الواقعي، لكن يمزجه بخط فانتازي واضح، إذ ترى عائشة في أحيانٍ متفرقة طائر النعامة، بينما تعاني هي نفسها من تغيرات عجيبة في جسدها. هذا المزج بين الأسلوبين لم يكن سلسًا أو تلقائيًا، ومتباعدًا زمنيًا، إذ يزداد حضور الخيالات في النصف الثاني من الفيلم، فيبدو وكأننا انتقلنا بين عالمين مختلفين، خاصة وبعض المشاهد لا تضيف أي جديد للشخصية أو للمشاهد. وربما تجدر الإشارة إلى كون بعض الأماكن الواقعية لا تخلو من لمسة مُضافة تفسد واقعيتها، مثلما حدث في عربات المترو التي لا تشبه مترو القاهرة.

يتماس الفيلم بشكل واضح مع رائعة المخرج دارين أرنوفسكي ”البجعة السوداء“ (Black Swan) والذي يعتمد بشكل أقوى وأكثر تماسكًا على الفانتازيا، إذ تشعر البطلة منذ البداية بتحولها التدريجي إلى البجعة السوداء، التي تمثلها في الآن ذاته في عرض الباليه الشهير. ولكن الفارق بين الفيلم الأمريكي والفيلم المصري يتمثل في الاعتماد على فكرة التحول والشكل الفانتازي بشكل أصيل داخل الأحداث منذ البداية وحتى نهاية الفيلم. ولكن يجب التعليق على جودة اختيار طائر النعامة ليصبح معادلًا للبطلة، فهو طائر لا يطير، وهو ما يشبه الشخصية التي لا تستطيع أن تخرج من عالمها.

ع

الصدمة والارتياح

تلت عرض الفيلم بعض التعليقات عن احتوائه على الكثير من المشاهد الصادمة والمزعجة، وهو أمر حقيقي، ولكن هل يجعل هذا الفيلم نفسه منفرًا؟ بالتأكيد لا. المشاهد الدموية والعنيفة أمر معتاد في السينما، ربما ليست معتادة في السينما العربية أو المصرية، ولكنها معتادة بالنسبة للمشاهد نفسه، وخاصة من يشاهد الأفلام الفنية التي تنطلق في المهرجانات. لا يحتوي الفيلم على مشاهد أبشع مما شاهدناه في فيلم ديفيد كروننبرج الشهير ”الذبابة“ (The Fly)، وربما يتماثل في نسبة المشاهد الصادمة مع أحد أبرز أفلام العام الماضي “المادة“ (The Substance) للمخرجة كورالي فارجاه، والذي عرض أيضًا في مهرجان كان. من المفهوم ألا يفضّل أو يتحمل بعض المشاهدين هذا النوع من اللقطات، ولكنه لا يعد مشكلة في الفيلم إلا -مثل أي شيء آخر داخل العمل الفني- عندما يكون خارجًا عن السياق.

نشاهد في ”عائشة“ تنويعة من مشاهد العنف والجنس، بالإضافة لألفاظ السباب بجميع درجاتها. إن عدنا لفكرة الواقعية فإن بعض هذه التفاصيل تنتمي بالفعل لعالم الشخصيات، فالسباب ”النظيف“ الذي يظهر عادة في أغلب الأفلام المصرية ليس هو المستخدم في الواقع بين فئات معينة، أو في حالات بعينها، وهكذا يختار الفيلم أن ينحاز للغة الواقعية، ولكن الأزمة هنا كانت في المغالاة في كل شيء مما سبق. في أحد المشاهد داخل المؤسسة التي توفر فرص العمل لعائشة وأخريات من اللاجئات، يُسلم المحاسب النقود لإحدى الفتيات لتخبره أنها تنقص مئتي جنيه، فيكون رد فعله الفوري هو التعدي عليها بالضرب والسباب. هذا المشهد ربما يلخص كيفية استخدام المشاهد المماثلة داخل الفيلم، بعضها يحدث دون مقدمات أو تبرير واضح لاستخدام هذا الشكل، وإن حاولنا التماشي مع فكرة أن الفيلم يصور قسوة المجتمع نفسه، فحتى مع هذا التبرير لا زالت المبالغة شديدة، وكانت نتيجتها أن أغلب -إن لم يكن كل- شخصيات الفيلم كانت أحادية البعد، لا تحتوي على مشاعر حقيقية، جميع أفعالها تتبع خطًا واضحًا طوال الوقت، وبالتالي أصبح التفاعل معها من قِبل المشاهدين شديد الصعوبة، فهناك حاجز من عدم الصدق يحول دون التعاطف مع أي شخصية، بما فيها شخصية البطلة نفسها.

ع

صوت المخرج وصوت الشخصيات

وصولًا إلى شخصية البطلة، فإننا نصل إلى آخر ما يناقشه هذا المقال وهو صوت المخرج نفسه. تميز فيلم مراد مصطفى القصير الأول ”حنة ورد“ بأن الممثلين كانوا على قدر كبير من التلقائية، في الأداء وطريقة إلقاء الحوار، وحتى الحوار نفسه، إلى الحد الذي يمكن معه أن يشك البعض في أنه فيلم وثائقي وليس روائيًا. على العكس يأتي ”عائشة لا تستطيع الطيران“، الذي يظهر خلاله الممثلون بشكل جاف، ويتحدثون بطريقة بطيئة، جميعهم يفعلون ذلك. فإن افترضنا أن عائشة هي امرأة مقهورة وبالتالي لا تستطيع التفاعل مع العالم الخارجي، فما المبرر أن يكون حبيبها عبدون (عماد غنيم) يتحدث بالطريقة نفسها؟ يبدو هذا خيارًا إخراجيًا واضحًا، وبالتأكيد لا مشكلة في أن يقدم صانع الفيلم شخصياته بالطريقة التي يودها، لكن النتيجة كانت أن صوت المخرج في هذه الحالة كان أعلى من صوت الشخصيات نفسها.

هذا الأمر كان موجودًا في كل نواحي الفيلم، وينبغي هنا التوضيح بين الفارق بين أن تكون بصمة المخرج حاضرة، وهو الأمر المطلوب بل والذي يجعل بعض المخرجين يتميزون عن غيرهم بالفعل، وأن يكون المخرج حاضرًا على حساب شكل الفيلم نفسه، إذ نشعر أن حركة الممثلين داخل الكادر، وطريقة كلامهم، امتدادًا إلى طبيعة المشاهد ككل، تعتمد على رغبة المخرج في صناعة مشاهده بطريقة محددة تأخذ من الفيلم روحه وتجعله جافًا خالي من الانسيابية بين عناصره، هذه التي تجعل المشاهد يتفاعل مع الفيلم ويصبح داخله بعد عدة دقائق، هذا بالرغم من التميز الواضح في بعض العناصر التقنية خاصة التصوير لمصطفى (ضاضا) الكاشف.

فيلم ”عائشة لا تستطيع الطيران“ تظهر فيه بوضوح عيوب العمل الطويل الأول للمخرج، خاصة الرغبة في قول الكثير جدًا من الأشياء، أكثر مما يتحمله الفيلم، في حين أن الفكرة الأساسية وعالم الشخصية كانا يمكن أن يقدما الكثير بالفعل في حالة اختزال بعض التفاصيل لإعطاء المساحة الأكبر للعناصر الأهم والأبرز في سيناريو الفيلم، وإضافة أبعاد أكثر للشخصيات. لكننا في الآن ذاته نرى لغة مراد السينمائية لا زالت حاضرة وقابلة لمزيد من الحضور والتطور في الأفلام القادمة بلا شك.