فيلم رحلة 404

فيلم "رحلة 404".. عندما تصنع الأخطاء إنسانًا افضل

رامي المتولي
1 فبراير 2024

دائمًا ما يطالعنا رمز "خطأ 404" عند إنقطاع السبل الإلكترونية في الوصول إلى أحد المواقع عبر شبكة الإنترنت، عندها نحاول اتخاذ طريق آخر أو محاولة إكتشاف الخطأ لتستمر رحلة التصفح والوصول لما نرغب في الوصول إليه، كثيرًا ما يحدث نفس الشيء في الحياة للأشخاص، حيث تصل رحلة البعض إلى "الخطأ 404" وعندها يعيد الشخص ترتيب كل اوراقه ويعيد مسار رحلته، ولكم يبدو هذا الحديث قريبًا من غادة (مني زكي) الشخصية الرئيسية في فيلم "رحلة 404" والتى تواجه كل ثقل أخطاء ماضيها سواء ما جنته أيديها أو ما جناه أبيها وأمها بسبب تردي علاقتهما الزوجية، وتجد في طريقها إلى رحلة خلاصها الكثير من العراقيل والعوائق التي تتوالى وأحد تلو الآخر، وتمنعها من أداء رحلة الحج التي ترغب فيها أكثر من أي شيء في حياتها، حتى لو أخطأت مرة اخري أو مرات لتصل إلى هدفها، مثلها مثل كل البشر في رحلتهم التي تضم الكثير من السقطات والعودة وتكرار الخطأ ومحاسبة النفس والعودة وهكذا دواليك.

 فيلم "رحلة 404"
فيلم "رحلة 404"

السينما المصرية تضم في تاريخها مئات الأفلام الوعظية والتى يكون للقدر دورًا مهمًا في تحريك احداثها حيث يجد هذا الشكل قبولاً واسعًا بين الجمهور، يسعد مع انتصار الأبطال لنضالهم، ويشعرون بالرضا لمصائر هؤلاء الإبطال الذين ظلوا يعانون للمحافظة على المبدأ، وهو ما حدث بحذافيره في حالة غادة التي قادتها الظروف لتعمل في مهنة غير شريفة مستغلة جمالها وكونها امرأة، وأستمرت على هذا الحال لسنوات، قبل أن تقرر التطهر وترك هذه الحياة لتعمل كمسوقة عقارية، واضعة نصب أعينها هدف وحيد هو أداء مناسك الحج كمحاولة للتأكيد على التطهر والتوبة، في الوقت الحالى غادة تعمل وامورها مستقرة لكن.. يلعب القدر لعبته في اختبار صلابتها، وذلك من خلال مجموعة من الأحداث التي تضعها وعائلتها في موقف لا تحسد عليه، هذا الموقف خلف عدة اختبارات تشكل معًا اختبار كبير لحقيقية إيمانها بالهدف والرغبة في التحول إلى إنسانة أخري، أي أنها اصطدمت بالصفحة الخالية التي تحمل رمز الخطأ الشهير، وعليها أن تختار لحياتها مسارًا سيحدد طبيعتها كانسانة. 

أبطال فيلم "رحلة 404"
أبطال فيلم "رحلة 404"

تقف غادة في منتصف المسافة بين كل الشخصيات، وعلى الرغم من كونها الشخصية الأساسية لكنها تحولت في الفيلم إلى العنصر الذي تقاس عليه طبيعة كل شخصية من الشخصيات حولها، وليس العكس كما هو معتاد عندما يتم إستخدام الشخصيات الثانوية كعوامل محفزة أو للكشف عن احد جوانب الشخصية الرئيسية، لذلك نلاحظ دائما أن اختيارات غادة محدودة وأنها في أغلب مراحل حياتها مفعول به وليس فاعل، خلافًا للرجال والنساء في حياتها والمسئولين بشكل مباشر عن الاختيارات المحدودة التي اختياراتها ووضعتها في المسار الذي أصبحت عليه، هذه التفصيله الصغيرة هى ما بنى عليه السيناريست محمد رجاء الفيلم، واكسبه حيويته لحد كبير، نحن لسنا أمام شخصية مظلومة بشكل ميلودرامي ملقى على عاتقها الكثير من الاحمال لتثير عاطفة المشاهد ويشعر بالرضا لانتصارها في النهاية.

منى زكي في فيلم "رحلة 404"
منى زكي في فيلم "رحلة 404"

غادة تحولت إلى الوسيلة التي نستكشف بها طبيعة المجتمع حولها، والذي يضم الجانبان سواء اختارنا أن نصنفهم كخير وشر.. خطأ وصواب، أبيض وأسود، فمن خلال طريقة تعامل الشخصية المقابلة نتعرف على طبيعتها وانتمائها، اهتمام الفيلم بالشخصيات التي تتأرجح بين الجانبين.. أما الشخصيات التي حددت طريقها فتم الكشف عنها وبدت باهته وعلى الرغم من سطوتها ليست مؤثرة وكأنها في طريقها للهلاك مهما فعلت واثرها المدمر على غادة هو فقط موضع اهتمام المؤلف، أبرز الأمثلة على هذه الشخصيات هشام (محمد علاء) وشريكه (شادي ألفونس)، الأم (عارفة عبد الرسول)، الأب (حسن العدل)، في مقابل شخصيات غير مؤذية خيره وتبدو وكأن وجودها ليس ذا أهمية مثل الأخت (رنا رئيس)، عائلة شريك طارق، الصديق في العمل والذي جلب لها مشترى أرض العين السخنة، العمال في اتوبيس العمل الذين ممكن قرروا مساعدتها دون أي شرط أو منفعة.

 فيلم "رحلة 404"
 فيلم "رحلة 404"

هذه الشخصيات الواضح رسمها وتركيبها النفسى للحد الذي لا نحتاج معه إلى معرفة تفاصيل أكتر عنها، ووجودها بكثرة يعتبر في عمل فنى آخر عنصر من عناصر الضعف الفني، لما تقدمه من حلول وتحولات سريعة دون أن تتشابك خيوطها مع الخيوط الدرامية الاساسية، لكن في الحقيقة هى العوامل المحفزة والتى لا غنى عنها وتعتبر في الفيلم اداة من ادوات القدر وكأنها الاسئلة في أمتحان الشخصيات المتأرجحة وتبرز حالة الشك عند غادة والطارقان (محمد فراج ومحمد ممدوح) وشهيرة (شيرين رضا) ورجل الأعمال الذي خانته زوجته مع صديقة وفقد كل شيء باستثناء شقة (خالد الصاوي)، كنماذج تسعى للتطهر، وهذا الأستخدام الذكي والمحبوك كسر أي شك في لجؤ المؤلف إليهم كحل سريع لعقده الدرامية على العكس هم من العناصر الرئيسية في نوعيتي أفلام الرحلة والوعظ.

محمد ممدوح في  فيلم "رحلة 404"
محمد ممدوح في  فيلم "رحلة 404"

كثرة الشخصيات والتفنن في إظهار تفاصيلها بشكل مدروس هو وأحد من سمات اسلوب المخرج هانى خليفة، والذي على قلة إنتاجة عدديا مقارنة بأبناء جيله مثله مثل محمد رجاء، إلا إنه يركز على الجانب الفني ويختار لأعماله افضل العناصر ليخرج بافضل شكل فنى ممكن، ومع اعتماد محمد رجاء في السيناريو على عنصر الحوار بشمل مباشر في تقديم المعلومات عن الشخصية وماضيها، وكشفها في نقاط محددة خلال الرحلة بشكل تشويقى وصولا لمشهد النهاية، كان من الضرورى أن يكون أداء الممثلين على نفس القدر من الجودة، حتى مع اصحاب المشاهد القليلة لأن كل منهم بادائه يصنع جزءًا من الصورة الكاملة وذلك من خلال التوجيه المباشر للمخرج، لذلك يكسر الكثير من ابطال الفيلم النمطية التي صاحبت بعض أعمالهم في الفترة الأخيرة، وظهروا بشكل مختلف وابرزهم خالد الصاوي ومحمد فراج، مع تفوق متوقع ومستمر لمنى زكي وحسن العدل وسماء إبراهيم وشيرين رضا ومحمد علاء.

شيرين رضا في فيلم "رحلة 404"
شيرين رضا في فيلم "رحلة 404"

أكثر ما يميز الفيلم كونه لا يبالغ في الوعظ قدر ما يكشف الطبيعة البشرية ويحاول تفكيكها ودفع المشاهد للتفاعل معها، رافضًا الأحكام الاخلاقية التي تعد سمة من سمات السينما الوعظية في مصر بجذورها الضاربة منذ بدايتها وحتى الأن، ونجد اثارها في الشخصيات المثالية التي تدين أصحاب الاخطاء وتوصمهم بالعار وتتوعدهم بالعقاب الدنيوي، على العكس يمنح السكينة لكل من يحاول أن يصحح أخطائه ويسعى لعدم ارتكابها ولا ينزل اللعنات على الاشرار أصحاب التأثير المدمر، الأمر الذي يجعله أكثر واقعية وتقبل لدى المشاهد في القرن الحادي والعشرين، دون أن يستغل الأخلاق والدين كوسائل للخلاص قدر ما يتعامل معهم كوسائل للتقويم وإعادة تصحيح المسار للخروج في الانفاق المظلمة باستخدام احالات بصرية ورموز واضحة في الوعي الجمعى، كرحلة الحج وغطس غادة في البحر بكامل ملابسها من القدم للرأس، أو الممر الضيق المنتهى بنور والذي يشير إلى الممر الفاصل بين صالة الإنتظار في المطار والطائرة، أو كيفما يتم استخدامه في آلاف الاعمال الفنية كرمز معبر عن عبور الابطال للنجاح أو الخلاص، حتى كسر الصورة النمطية لأمتهان الجنس، كلها تؤكد بشكل غير مباشر على رغبة صُناع الفيلم باكملهم في نبذ الصورة النمطية للتناول الوعظي، ويدعم السينما الفنية المهمومة بالقضايا وتناقشها بجدية وتشتبك معها دون أدعاء أو أحكام مسبقة وبشكل سطحى والذي يعد سمه أساسية في أفلام اواخر التسعينات ونجومها من الشباب.