
بيرلوتي Champ-contrechamp عرض ربيع وصيف 26
تعود دار بيرلوتي من جديد إلى مقرّ مؤسّسة سيموني وتشينو ديل دوكا في الدائرة الثامنة من باريس، لتعرض مجموعاتها وحرفيّتها الرفيعة في مكانٍ ينبض بالأناقة والتاريخ. فإلى جانب أناقة هذا القصر التاريخي المُطلّ على حديقة مونسو، والذي شُيّد بين عامَي 1879 و1881، تبرز روابط خفيّة بين سيرة توريلّو بيرلوتي، ابن مؤسّس الدار أليساندرو بيرلوتي، وتشينو ديل دوكا. وُلد توريلّو عام 1895 في منطقة ماركيه الإيطالية، وفي أواخر عشرينيّات القرن الماضي، افتتح أوّل متجر لبيرلوتي للأحذية الفاخرة في باريس. أمّا تشينو ديل دوكا المولود أيضاً في المنطقة نفسها، فقد وصل إلى المدينة عام 1932 ليؤسّس رابع أكبر مجموعة نشر في فرنسا. وتُوّج هذا الإرث الثقافي عام 1975 بولادة مؤسّسة سيموني وتشينو ديل دوكا، التي كرّست نفسها لدعم الفنون والآداب والعلوم في فرنسا والعالم. واليوم، تجد بيرلوتي في هذا المكان صدى لفلسفتها العريقة، إذ تواصل استقطاب نخبة من عشّاق الأناقة المتفرّدة، من فنانين وكتّاب وعلماء، إلى ممثّلين وسياسيين ورجال أعمال، يبحثون عن أسلوب يعبّر عن شخصيّتهم من الرأس حتى أخمص القدمين.
يحمل عرض بيرلوتي عنوان Champ-contrechamp، أي "لقطة / عكس اللقطة"، وهي تقنية سينمائية تعتمد التنقّل بين زوايا الكاميرا من موقع ثابت لإبراز جانبَي الحوار. بهذه المقاربة البصرية، تسلّط الدار الضوء على حرفيّتها الفائقة وتعقيد التفاصيل التي تكمُن في عمق كلّ تصميم. فلا حذاء، ولا حقيبة، ولا جاكيت تحمل توقيع بيرلوتي، إلّا وتخفي خلف جمالها الظاهر عالماً من الدقّة والحرفيّة، حيث تتجلّى لمسات لا تُعدّ ولا تُحصى، قد لا يلحظها سوى أصحاب الذوق الرفيع، لكنّها تشكّل العلامة الفارقة للتميّز الحقيقي.
صُمّم هذا العرض كتعبير رمزي عن أسلوب بيرلوتي المتفرّد، حيث تعكس لعبة تبدّل الزوايا والرؤى جوهر الدار على مستويات عدّة، تمتدّ عبر الطوابق الثلاث للمبنى. في كل طابق، تنكشف جوانب جديدة من عالم بيرلوتي، في رحلة غامرة تأسر الزوّار بتسلسلٍ مدروس، وتدفعهم إلى التوغّل في التفاصيل الخفية التي لا تُدرك إلا من خلال التجربة، والخبرة، وعمق النظرة.
علم القدم
ما إن يعبر الزوّار القوس الضخم شبه الدائري الذي يزيّن المدخل، حتى تستقبلهم صورة ظلّية أنيقة، تنصبّ عليها النظرات وتنبهر بها الوجوه من كل جانب. يدفعهم الفضول للسير قدماً نحو الصالون الكبير، حيث يشمخ مجسّم ضخم لقدَم، بجلال يوازي تمثال دايفيد لمايكل أنجلو في معرض الأكاديمية. لكنّ هذه المنحوتة ليست مجرّد تحفة فنيّة، بل تذكير راسخ بأنّ دار بيرلوتي بَنَت إرثها، لأكثر من قرن، على فهم عميق وعلمي لتفاصيل القدم. فبالنسبة لبيرلوتي، لا مجال للتضحية بالراحة من أجل الأناقة. ويكتسب هذا المبدأ أهمية متزايدة في زمنٍ يسعى فيه الناس إلى قطع عشرة آلاف خطوة يومياً، تماشياً مع توصيات منظمة الصحة العالمية بممارسة ما بين 150 و300 دقيقة من النشاط البدني أسبوعياً. على الأرض، تحيط بالمنحوتة أوراق قياس مستوحاة من دفاتر الحرفيين، تذكّر بمدى دقّة المعرفة التي يتحلّى بها صنّاع الأحذية في الدار. فكل تصميم يُفصّل ليتناسب مع شكل القدم، من قبّتها العلوية إلى تقوّسها السفلي. فالقدم المكوّنة من 28 عظمة، و27 مفصلاً، و23 عضلة، وأكثر من 100 رباط، تُعدّ خريطة بيولوجية معقّدة، وأساساً حيوياً للحركة والتوازن. وأن تعرف كيف تقرأ هذه الخريطة الدقيقة، وتلاحظ بروز العظمة الخامسة أو التقوّس العالي في المشط، وتصيغ قالباً يحتضن هذه التفاصيل من دون أي ضغط أو انتفاخ، هو ما يميّز الفنّان الحقيقي في صناعة الأحذية.
فنّ استخدام الخامات
في محطّتهم التالية، ينتقل الزوّار إلى غرفة كوردوفان، وهي مساحة تنبض بروح الجلد الفاخر الذي شكّل، منذ اللحظة الأولى، جزءاً لا يتجزّأ من هوية دار بيرلوتي. هنا، لا تُعرض المواد فحسب، بل تُروى قصص، تبدأ من يد توريلّو بيرلوتي الذي علّم ابنه تالبينيو أسرار الحرفة منذ سنّ الخامسة عشرة، لتتجلّى هذه الخبرة لاحقاً في موهبة استثنائية في القصّ والتشكيل، لا تزال حاضرة اليوم في مشاغل الدار في فيرارا، إيطاليا. في وسط الغرفة، تستقرّ على الطاولة قطعة جلد أنيقة، لتكشف عن جودة المادة، وتعكس خبرة الحرفيّين في اختيار الجلود وتحديد الأجزاء المثلى منها للقصّ والاستخدام. فلكلّ نوع وظيفةٌ محدّدة، إذ يُخصّص جلد فينيزيا الشهير للأحذية، ويُستخدم جلد العجل الطبيعي لتحضير طلاء الزنجار الأيقوني، أمّا جلد سادل سوفت الناعم فهو مخصّص للسترات، فيما يُعتمد الجلد السويدي في تصميم جاكيت Forestière. حتى اسم الغرفة يحمل دلالات عميقة، إذ يستحضر الجذور التاريخية للحرفة، ففي روما القديمة، انتمى صنّاع الأحذية إلى النقابة الخامسة من بين تسع نقابات للمواطنين، ما منحهم الحق في امتلاك مشاغلهم الخاصّة، وهو امتياز يُظهر أهمية هذه المهنة. أمّا مصطلح cordwainer وهو الاسم القديم لصانع الأحذية، فقد ظهر لأول مرّة في أوروبا الغربية في القرن الحادي عشر، وكان يُطلق على الحرفيّ المسموح له باستخدام جلد كوردوفان لصناعة الأحذية الفاخرة للنخبة الحاكمة. وقد بلغت هذه الأحذية من القيمة ما جعل أصحابها يُوصون بها في وصاياهم، كأنها كنز لا يُقدّر بثمن.
نقشة Scritto المتميّزة
في قلب مكتبة هادئة، يجد الزائر نفسه أمام واحدة من أكثر بصمات بيرلوتي تفرّداً: نقشة Scritto. فقد استُلهم هذا النمط المميّز من وثيقة قانونية مكتوبة بخط اليد تعود إلى عام 1771. يُحفر هذا الخطّ المنمّق على سطح الجلد باستخدام تقنية الليزر، فتظهر الكتابة كأنها قصيدة صامتة، تزيّن حذاء أوكسفورد برباط، أو علبة سيجار، أو قميص بولو، أو حتى معطفاً فاخراً.
حقيبة City Bag
بعد أن اختبر الزوّار الركائز الجوهرية لهوية بيرلوتي، يقودهم شعاع من الضوء إلى الطابق الأول، حيث يتحوّل صالون فينيي إلى مساحة تنبض بالألوان والمرح، أشبه بعلبة حلوى راقية. هناك تتألّق حقيبة Jour de Poche، بتصميمها العملي والمدمج الذي يجمع بين الأناقة وسهولة الحركة، ويحتفظ بجميع المستلزمات اليومية في متناول اليد. انطلقت بيرلوتي في عالم السلع الجلدية عام 2005 مع حقيبة أوراق أنيقة، قبل أن توسّع رؤيتها الإبداعية بإطلاق حقيبة السفر Deux Jours، التي تحوّلت إلى واحدة من أيقونات الدار، محافظةً على الجرأة التي تميّز توقيعها في كل تفصيل. تستند كل قطعة إلى المثلّث الذهبي للتصميم: الوظيفة، الجمال، والغرض، لتقدّم خيارات متعدّدة من حيث الشكل والخامة واللون وطريقة الحمل. تستعيد حقيبة Jour de Poche التفاصيل اللافتة لمجموعة Jour، حيث تأتي مكسوّة بجلد فينيزيا الفاخر، مع جيب خارجي بسحّاب غير مركزي، ولسان سحّاب على شكل ورقة شجر. إنها مزيج مثالي بين علبة إينرو اليابانية التقليدية وحقيبة السفر الصغيرة، بحجم لا يتعدّى كتاب الجيب مثالي لأي إطلالة. أما من ناحية الألوان، فتأتي الحقيبة بتدرّجات جذابة مثل cognac، وmimosa، وGolf Scritto، وgrass green، وDark Cherry، ما يجعل اختيار لون واحد تحدّياً بحد ذاته.
"Ceci n'est pas une charentaise" – ("هذا ليس خفّاً منزلياً")
في صالون أورانج، تكشف بيرلوتي عن حذائها الرياضي Shadow، الذي يعيد تعريف الخفّة والراحة بوزن لا يتجاوز 450 غراماً، أي ما يعادل وزن حبّتَي تفاح. وبما أنّ استعارة لوحة رينيه ماغريت الشهيرة "Ceci n’est pas une pomme" (هذه ليست تفاحة) من متحف لوس أنجلوس للفنون لم تكن ممكنة، اختارت الدار أن تستحضر روحه الإبداعية ونظرته الفلسفية، لتبتكر تعبيرها الخاص عن التباين بين ما نراه وما هو عليه في الحقيقة. فجاءت العبارة: "Ceci n'est pas une charentaise"، "هذا ليس خفّاً منزليّاً" لترافق تصاميم تُجسّد التطوّر التقني المستمر في عالم صناعة الأحذية. ويُعرض في هذا المكان أحدث ما توصّلت إليه الدار من تطوّر تقني في تصميم سنيكرز Shadow: من النسيج الشبكي المحاك بخيوط هندسية ذات خصائص تبريدية مثالية للأجواء الحارّة، إلى الجزء العلوي الأنيق المستوحى من أحذية الأربطة الكلاسيكية، والمُصمّم بثلاثة صفوف من الثقوب، ما يضفي عليه طابعاً أنيقاً وخفيفاً في آن. أما النعل فهو مصنوع من الإسفنج ذي الذاكرة المرنة Memory Foam، الذي يتكيّف مع حركة القدم ويخفّف من أثر الخطوات والصدمات، ليمنح مرتديه أداءً مريحاً بتصميم رفيع الذوق.
أسلوب متفرّد
في الطابق الثاني من هذا المبنى التاريخي، حيث تطلّ النوافذ على حديقة مونسو، تتكشّف ملامح أسلوب بيرلوتي الفريد أمام الزوّار في تجربة تنبض بالتفرّد. إنه أسلوب متكامل يبدأ من الرأس ويصل إلى أخمص القدمين، يجمع بين الأناقة والمرونة ويمكن تنسيقه بسلاسة سواء مع حذاء رسمي بأربطة أو مع سنيكرز عصري، بحسب المزاج والمناسبة. تتألّق جاكيت Forestière في صدارة هذه التشكيلة، بتصاميمها المتنوّعة التي تتراوح بين الكتّان الليلكي المعالج بخلاصة الألوي فيرا، والصوف باللون الأخضر الليموني، وصولاً إلى الكحلي الكلاسيكي الأنيق. كما يبرز قماش التويد الصيفي الجديد كخامة لافتة مصنوعة من مزيج فاخر يضم الكشمير، والصوف، والقطن، والحرير، والكتّان، ويجمع بين الابتكار والرقيّ.