
أسبوع باريس للأزياء ربيع 2026 بين الرؤى الإبداعية الجديدة والإرث على المحك: من رسم المستقبل ومن تعثّر أمامه؟
أسبوع باريس للأزياء الجاهزة لربيع وصيف 2026 لم يكن موسمًا اعتياديًا، كان لحظة انعطاف تُعيد رسم خريطة الإبداع العالمي وتُحدّد وجهة الفخامة لعقود قادمة.
ما حدث في العاصمة الفرنسية تجاوز فكرة العروض، كان إعلانًا عن عهد جديد تتبدّل فيه القواعد ويُعاد تعريف السلطة الجمالية، حيث أصبح الإرث مادّة خام لإعادة البناء، حيث تحوّل وزنه الثقيل إلى طاقة خَلاّقة تدفع بالدور نحو إعادة اختراع ذاتها.
في مدينة تتّقد بالتجديد كما تتّقد بالضوء، استعادت باريس موقعها كمركز الجاذبية في عالم الأزياء. لم تعد المنصّات مجرّد مسارح للعرض، بل ساحات لاختبار المعنى نفسه: ما الذي يجعل دارًا عظيمة؟ وكيف تُكتب الفخامة من جديد حين تتغيّر اللغة التي تعبّر عنها؟
بين “ديور” التي أعادت تفكيك ذاكرتها و“شانيل” التي أعادت ترتيب رموزها، و“بالنسياغا” التي استعادت فكرها البنائي الأول، و“موغلر” الذي جعل الجسد معادلة هندسية، و“لويڤي” التي أعادت تعريف الحِرفة كطاقة حسيّة، شهدنا إعادة توزيع دقيقة لأدوار الإبداع.
حتى الإخفاقات، كعرض “غوتييه” تحت قيادة “دوران لانتينك”، أثبتت أن الثورة حين تُفرغ من الفكر تفقد معناها.
Dior :"أندرسون" يعيد تعريف الهوية
في أولى مجموعاته لدار “ديور”، أعاد “جوناثان أندرسون” قراءة الإرث من زاوية جديدة، استخدم التاريخ كمنصة للانطلاق عوضاً عن قيد إبداعي.
“النيو لوك” تحوّل إلى تجربة بنائية معاصرة بهيكلة مختلفة، تنانير أخفّ و أقصر، وأنوثة مرحة تتنقّل بين الذكاء والبساطة.
رموز الدار ظهرت بتوليف جديد: أزهار، باستيل، رمادي ووردي، لكن بإحساس واقعي أكثر من كونه أرشيفيًا.
نجح "أندرسون" في تقديم رؤية متزنة، توازن بين حداثة فكرية وهوية كلاسيكية، وأثبت أن “ديور” يمكن أن تتحرّك للأمام دون أن تفقد روحها.



Balenciaga: "بيتشولي" يوقظ جوهر الدار
“بيارباولو بيتشولي” قدّم افتتاحية هادئة في ظاهرها، قوية في مضمونها. استخدم الحِرفة كأداة فكرية لإحياء القيم المعمارية التي أسّسها “كريستوبال بالنسياغا”.
القصّات دقيقة، الألوان متوازنة، والأنوثة مكرّسة كفكر هندسي أكثر من كونها زينة.
أعاد "بيتشولي" للجمال منطقهِ، وللأناقة اتزانها، مؤكّدًا أن الرقي لا يُقاس بالضوضاء بل بصفاء الفكرة.
كانت النتيجة عودة بالدار إلى جوهرها: بناء الجمال لا استعراضه.



Chanel: "بلازي" يعيد مدار الدار
“ماثيو بلازي” أعاد ترتيب فلك “شانيل” بطريقة تحترم الأصل وتعيد صياغته، حوّل التويد من رمز ثابت إلى فكرة متجدّدة، وأدخل الأقمشة البديلة ليمنحها معنىً جديدًا.
التصاميم جمعت بين الانضباط والجرأة، واستحضرت روح “كوكو شانيل” من خلال عيون الحاضر.
قدّم بلازي “شانيل” أكثر فكرًا وصدقًا، دار تعرف من أين جاءت وإلى أين تمضي.



فوضى بلا رؤية: سقوط “دوران لانتينك” في Jean Paul Gaultier
حين صعد “دوران لانتينك” إلى منصّة “جان بول غوتييه”، كان الرهان كبيرًا على تمرّدٍ ذكي يُعيد إشعال روح الدار، إلا أن النتيجة جاءت عكس التوقّع تمامًا.
ما قدّمه لم يكن تمردًا بل انهيارًا في البنية الإبداعية نفسها. رموز “غوتييه” تحوّلت إلى كاريكاتير، والكورسيهات إلى هياكل خاوية فقدت معناها، فيما ضاعت فكرة الإغراء الذكي التي شكّلت جوهر الدار بين مبالغات سطحية وأداء مسرحي بلا روح.
تبدّد الاتزان، تلاشى الحسّ التقني، وسقط العرض تحت ثقل الصخب الذي حاول أن يُخفي غياب الفكرة.
سقوط “لانتينك” لم يكن في التنفيذ فقط، بل كان أيضاً في غياب الفهم الجوهري لما جعل “غوتييه” أيقونة: الذكاء، السيطرة، والقدرة على تحويل الجرأة إلى جمال. ما شاهده الجمهور كان تمرينًا على الفوضى لا فعلًا إبداعيًا.
عرضٌ ترك بعده سؤالًا واحدًا: كيف يمكن لمصمم أن يُسقِط داراً بثراء “غوتييه” في لحظةٍ واحدة من سوء التقدير.



Mugler: "فريتاس" يعيد الخَصر إلى مركز الجاذبية
“ميغيل كاسترو فريتاس” افتتح فصله في “ميوغلر” بعنوان Stardust Aphrodite ، مقدّمًا أنوثة جديدة تقوم على القوة و الهيكلة.
الكورسيهات صيغت كمعمار دقيق، تعيد بناء الجسد وتحوّله إلى العنصر الأساسي في المجموعة.
غابت المبالغة وحلّ محلّها انضباط فكري وجمالي أعاد إلى الدارمكانتها كمنصة للأناقة الجريئة والتفاصيل المتطرفة.



Loewe: نبض الحِرفة وذكاء التكوين
الثنائي “جاك ماكولو” و“لازارو هيرنانديز” قدّما رؤية جديدة تنبض بالدفء والحركة.
الأقمشة المخادعة والطبقات المحكمة أظهرت حِرفة عالية في خدمة البساطة المدروسة.
النتيجة كانت “لويڤي” بصورة متوازنة، دار تتحدّث بلغة الملمس و الألوان، وتعيد للعلامه واقعية مرحة.



أسبوع باريس ربيع 2026 كان عرض للقوى الإبداعية و كشفًا لميزان جديد تتحرّك عليه صناعة الموضة بين الذاكرة والمستقبل. على المنصّات، رأينا دور تواجه إرثها بشجاعة، وأخرى تسقط تحت ثقل اسمه.
وهنا، تترك باريس السؤال معلّقًا أمام الصناعة كلها: بعد أن تغيّر شكل الإرث وتبدّلت أدوات الإبداع، من يملك الرؤية القادرة على الاستمرار؟ ومن سيكتب الفصول القادمة لعصرٍ بدأ فعلاً من هنا؟