الملك محمد منير... كل عام وأنت بخير

"كم عام ومواسم عدوا.. وشجر الليمون دبلان على أرضه"
 
هكذا جاءنا صوته العذب، منذ أكثر من ثلاثة عقود، يتدفق كما النيل الذي يشبهه، ويزيح في طريقه كل الحواجز التي تعيقه من الوصول للقلب مباشرة، صوته الأخضر، كما وجهه الأسمر، يحملان كل خير مصر، وكل أحلام المصريين، التي أجاد التعبير عنها كما لم يفعل غيره.
 
ولد محمد منير أبا زيد جبريل متولي، في مثل هذا اليوم العاشر من شهر أكتوبر عام 1954، في إحدى قرى منطقة النوبة بأقصى جنوب مصر، وهاجر منها في أوائل السبعينيات من القرن الماضي إلى القاهرة، ليكمل تعليمه الجامعي في كلية الفنون التطبيقية قسم التصوير، ومنها بدأ رحلته الطويلة في عالم الغناء.
 
البداية كانت مع الشاعر الكبير الراحل عبد الرحيم منصور، الذي تبنى منير فنياً بعد أن عرفه عليه الشاعر النوبي زكي مراد، تعرف الى الأب الروحي للموسيقى النوبية أحمد منيب، وحمل الاثنان منيب ومنصور على كاهلهما عبء تعريف محمد منير بالجمهور، ويبدو أن منير بالنسبة لهما، كان أفضل واجهة لمشروع حلما به طويلاً، لتقديم موسيقى وكلمات مختلفة، تنتمي بقوة لهذه الأرض العتيقة، وبالفعل كان صوت منير الشجي، هو خير من يحمل هذه الرسالة.
 
قدم منير مع الثنائي العظيم منصور ومنيب أول ألبوماته "علموني عنيكي" عام 1978، وكان قد انضم لهم عبقري موسيقي آخر، هو الموسيقار هاني شنودة، الذي قدم توزيعات متميزة لأغنيات الألبوم، كانت بداية الخلطة المميزة لموسيقى الجاز مع السلم الخماسي الذي تعتمد عليه الموسيقى النوبية المصرية الأصيلة، ورغم أن الألبوم لم يحقق النجاح المنتظر، إلا أن هذه المجموعة الحالمة لم تيأس، وقدموا بعده بعام ألبوم "بنتولد"، الذي حقق نجاحاً كاسحاً، ما أغراهم بإعادة إنتاج الألبوم الأول، الذي نجح هذه المرة، وانطلق منير بعدها في مسيرته الفنية، يحفر اسمه بحروف من ذهب على قلوب جمهوره، كما حفر أجداده تاريخهم العظيم على جدران المعابد من قبل.
 
كان عبد الرحيم منصور يحلم بأن يغني لحبيبته الوحيدة كما لم يغن شاعر من قبل، والفارق بينه وبين غيره من المحبين، أن هذه الحبيبة كانت هي مصر، فكتب فيها مالم يكتبه قيس في ليلى، وباتت مشكلته في من يمكنه أن يعبر عن هذه المشاعر بصوت يحمل بداخله نيل مصر، على موسيقى تخرج من قلب الأرض، فجاءت "علموني عنيكي أسافر"، "مسكينة حبيبتي السمرا"، "يا عروسة النيل يا حتة من السما"، "شجر الليمون دبلان على أرضه"، ليه تسكتي زمن .. اتكلمي"، "أنا ويا شمس المغيب بغيب .. وأنت بتشرقي" وغيرها الكير جداً من أغاني الحب التي غيرت مفهوم الأغنية الوطنية، ولم يكتفوا بذلك، بل غنوا معاً للإنسانية كلها، للبحر، للشجر، للنسيم، للغربة، لكل ما يمس مشاعر الإنسان في أي حالة، ما جعل أغنياتهم باقية حتى الآن في قلوب محبيهم، تزداد قيمتها مع الوقت، عكس كير من الأغنيات التي يطويها النسيان بمجرد خروجها للنور.
 
لم يتوقف منير عند رحيل أبيه الروحي عبد الرحيم منصور عام 1984، الذي كان صادماً بكل المقاييس، واستمر في مشروعه الذي آمن به، وقدم أغنيات لا تقل في قيمتها، لشعراء آخرين عظماء، بل لكل الشعراء الكبار الموجودين في هذا العصر، غنى لفؤاد حداد، صلاح جاهين، سيد حجاب، مجدي نجيب، أحمد فؤاد نجم، وبالتأكيد عبد الرحمن الأبنودي ابن الصعيد البار، الذي كان شعره الأقرب لمشروع منير وصوته، وكان من الطبيعي أن يلتقيا، وكل منهما محمّل بكل تراث الأرض التي أتى منها.
 
أصر منير على أن يتطور، وألا يقف عند حدود جامدة، فظل يبحث عن الجديد، ووجد غايته في موجة جديدة من الشعراء الشبان وقتها، أبدعوا معه وأبدع معهم، مثل جمال بخيت، إبراهيم رضوان، شوقي حجاب، والراحل عصام عبد الله، الذي كان ظهوره أشبه بطاقة نور في الأغنية الحديثة، لكن هذه الطاقة ما لبثت أن أغلقت سريعاً برحيله المفاجئ وهو في ريعان الشباب، وانتقل منير إلى مرحلة جديدة مع جيل جديد، كان أميز من فيه الشاعرة الجميلة كور مصطفى، التي قدمت رؤية جديدة للأغنية، تبناها منير فوراً، كذلك بهاء الدين محمد، وحسن رياض، وطارق عبد الستار، ومؤخراً محمد رضوان، ونصر الدين ناجي، ومازال البحث مستمراً والإبداع لا يتوقف.
 
كان من الطبيعي أن يلتقط هذه الظاهرة الفنية المتميزة، مبدع آخر هو المخرج العالمي يوسف شاهين، الذي انتبه لمنير مبكراً، فقدمه في كثير من أفلامه، وكان أولها حدوتة مصرية عام 198، ليفتح أمام منير باب عالم آخر هو التمثيل، فانطلق في السينما والمسرح والتليفزيون، مطعماً أداءه بالمزيد من الأغنيات الرائعة، التي بقيت –ربما- أكثر من الأعمال نفسها.
 
قدم منير –حتى الآن- ما يقرب من 25 ألبوما غنائيا، و9 ألبومات درامية، وعشرة أفلام، وثلاث مسرحيات، ومازلنا نتطلع للمزيد، وننتظر بفارغ الصبر كل جديد يخرج علينا به الملك (كما يسميه جمهوره الكبير)، وفي يوم ميلاده لا يسعنا إلا أن نتمنى له المزيد من التوفيق والإبداع، ليظل يمتعنا ويعبر عن مشاعرنا كما نحلم بها بالفعل.