
خاص لـ"هي": الفنانة البصرية السعودية جنى الملائكة بين الهوية والابتكار البصري
في فضاء الفن السعودي المعاصر، تلمع الفنانة البصرية، والمصممة، والباحثة السعودية جنى ملائكة حيث تتنقل بين الطباعة وفن تشكيل الحروف والخامات التجريبية، لتنسج أعمالًا تجمع بين التراث والبحث النقدي والتجريب المعاصر.
تركز أبحاثها الحالية على الرمزية البيئية والثقافية لنخلة التمر، والتي تتجلى في مشروعها المستمر "مناظر النخيل". وقد عُرض هذا المشروع في بينالي الفنون الإسلامية في جدة، حيث يستكشف النخلة ليس فقط كعنصر من عناصر المنظر الطبيعي وتجريد الألوان، بل كرمز صامد للهوية والتكيف البيئي.

في هذا اللقاء الخاص مع "هي"، نخوض مع جنى رحلة داخل عالمها الإبداعي من بداياتها وتعدد تخصصاتها، إلى مشروعها الفني ورؤيتها النقدية للتراث، وصولاً إلى طريقة تعاملها مع اللغة والخط العربي، وكيف تشكّل هذه المقاربات مشهدًا بصريًا متجددًا في السعودية اليوم.
البدايات والتخصصات المتعددة
منذ بدايتها، ارتبطت جنى ملائكة بمجالات متعددة من التصميم والفنون البصرية، ما شكّل هويتها الفنية بطريقة متكاملة ومعقدة. ثم تقول لـ"هي": "ارتبط التصميم الطباعي، وتصميم المطبوعات، واللغة، والفنون البصرية ارتباطًا وثيقًا في ممارستي؛ إذ يُشكّل كل منها الآخر بطرقٍ جوهرية."
وتكمل الحديث قائلة: "فاللغة، لا سيما اللغة العربية، ليست أداة للتواصل فحسب، بل موضوع معقّد تتداخل فيه طبقات من التاريخ والدلالة الثقافية… هذا التكامل المتعدد التخصصات هو ما يشكّل أساس هويتي الفنية، وهو ما يدفع ممارستي نحو تصميم قائم على البحث والتفكير النقدي."

تأثير تخصص الخط العربي على التراث واللغة
يشكّل الخط العربي بالنسبة لجنى أكثر من مجرد مهارة تصميمية، فهو بوابة لفهم أعمق للتراث واللغة. ثم تقول لـ"هي": "لقد دفعني التخصص في تصميم الخط العربي إلى تجاوز الجماليات السطحية، والانخراط في فهم أعمق لبنية الحرف، وإيقاعه، ونظامه الجذري… هذا التساؤل فتح أمامي مجالًا أوسع لاستكشاف كيف يُسهم التراث في تشكيل الهوية البصرية عبر الزمن والمكان."
مشروع "مناظر النخيل"
النخلة ليست مجرد عنصر زخرفي في أعمال جنى، بل رمز حيّ ومتعدد الأبعاد. تقول لـ"هي": "انبثقت فكرة المشروع من شجرة النخيل، الحاضرة دومًا في محيطي بالمنطقة الشرقية، لكنها مع الوقت أصبحت شبه غير مرئية بفعل الاعتياد. بعد مغادرتي السعودية للدراسة، لاحظت ارتباطها بذاكرتي المكانية وبدأت أتساءل: ما الذي تمثّله هذه الأشجار فعلًا بعيدًا عن كونها عنصرًا زراعيًا أو زخرفيًا؟"
الوسائط والتقنيات في المشروع
لتوصيل تعقيدات النخلة، استخدمت جنى في المشروع تقنيات محددة موضة:" استخدمت عدة وسائل للنظر إلى النخلة من زوايا مختلفة: التصوير الفوتوغرافي، والحياكة، والطباعة الضوئية "السيانوتايب"، وصناعة الورق من ألياف النخيل. ركز التصوير الفوتوغرافي على التجريد والتفاصيل لتجاوز الصورة الرمزية."
وتكمل الحديث:" بينما الحياكة التصويرية المستوحاة من الحرف التقليدية عكست طبقات الذاكرة والهوية الثقافية. السيانوتايب استخدمت فيه الضوء لالتقاط ظلال السعف بشكل جوي وزائل، أما الورق اليدوي فأضفى حضورًا ملموسًا للعمل، رسّخ المشروع حرفيًا في جوهر الشجرة. هذه الأساليب بنت لغة بصرية تعكس تعقيد النخلة: مألوفة لكنها دقيقة، صامدة لكنها هشة."

الطبيعة والهوية والبيئة
تنظر جنى إلى النخلة كمفردة تربط الطبيعة بالهوية والبيئة في السعودية المعاصرة. ثم تقول لـ"هي": "النخلة تمثل مثالًا مثاليًا للطبيعة، البقاء، والذاكرة… تتجلى الهوية في الألفة والتكرار… تغيّرات البيئة تغير الطريقة التي نفكر بها في التراث والاستدامة. أردت من هذا المشروع أن يعيد تأطير النخلة كرمز للتقاليد وعلامة بيئية."
التعامل مع التراث دون نوستالجيا فارغة
تعالج جنى التراث كحيوات متجددة، لا كرموز جامدة. ثم تقول لـ"هي": "أنا أتعامل مع هذه المواضيع كخيوط حية ومتطورة، لا كرموز ثابتة من الماضي. تسعى ممارستي إلى الكشف عن الروايات المهملة أو المجزأة، وأتناولها بنهج نقدي وشاعري في الوقت ذاته. رغم وجود طبقة شخصية من الحنين، إلا أنه في جوهره يعكس كيف يشكل التاريخ بيئتنا الحالية، ويتيح مساحة لظهور معانٍ جديدة."
التراث ودوره المعاصر في الفن السعودي
ترى ملائكة أن التراث ليس موضوعًا جامدًا، بل أداة لتوليد أسئلة جديدة. ثم تقول لـ"هي": " ينظر اليوم للتراث يُنظر إليه بشكل متزايد كشيء يمكن إعادة صياغته وتفسيره. هذا يجعل منهجية المبدعين أكثر تعقيدًا، متجذرة ومعاصرة في الوقت ذاته. هذا التركيز خلق حوارًا ثقافيًا معقدًا، يشعر بأنه متجذر وفي نفس الوقت تجريبي."

كيف يتم تمثيل العربية بشكل خاطئ؟
ساهمت الدراسة في لندن في صقل رؤيتها للخط العربي وعلاقته بالتصميم العالمي. ثم تقول لـ"هي": "أتاحت لي الدراسة التعرض لمنهج يركز على الثقافة الأوروبية، في الطباعة، حيث كانت الخطوط غير اللاتينية، وخاصة العربية، غائبة إلى حد كبير عن النقاش."
وتكمل الحديث:" بدأت ألاحظ كيف يتم تمثيل العربية بشكل خاطئ أو إعادة تشكيلها لتتناسب مع أنظمة التصميم المبنية على الحروف اللاتينية، مما دفعني للتشكيك في الأُطر التي نُعلّمها للعمل ضمنها. هذا الغياب يكشف مشكلة أعمق تتعلق بمن يتمحور حوله الخط والنص، ومن يتم تهميشه."
وتختتم:" ركزت رسالتي على "تلتين" الخط العربي في الطباعة العالمية، باعتبارها عملية تحمل دلالات ثقافية وتاريخية أعمق، إلى جانب كونها تكيفًا بصريًا. استكشفت كيف يُجبر الخط العربي غالبًا على التوافق مع أنظمة لم تُصمم له أصلًا، وهو نوع من "تلتينة" هيكلية تُسَطح تعقيده. غيّر هذا البحث فهمي للخط من كونه مجرد عنصر بصري ومحايد إلى كونه حاملًا للهوية والتاريخ واللغة والسلطة."
التحديات الفكرية والثقافية
واجهت جنى صعوبات عند تقديم الخط العربي في السياقات الغربية. حيث توضح لـ"هي" قائلة: "الكثير من مناهج التصميم الغربية لا تأخذ في الاعتبار الفروق الدقيقة في الخط العربي، ناهيك عن سياقاته الثقافية أو الدينية. كثيرًا ما وجدت نفسي مضطرًا لتقديم خلفيات وتفسيرات تشرح ما أفعله وتبين أهمية هذا الأمر."
وتكمل الحديث:" هذه التجارب دفعتني للتفكير بشكل نقدي حول كيفية تطوير استراتيجيات بصرية تعمل عبر أنظمة مختلفة، وتتواصل مع جمهور غير مألوف دون أن تُفقد الخط نزاهته وسلامته. بدلًا من محاولة "ترجمة" العربية إلى لغة تصميم غربية، بدأت أبتكر أعمالًا تتحدى تلك التسلسلات الهرمية، تفتح حوارًا حول الرؤية، والوضوح، والتعدد اللغوي. هذه التحديات شكلت في النهاية منهجيتي، وعمّقت التزامي بالتصميم بالخط العربي من داخله، مستندًا إلى أنظمته وتاريخه."

التعاونات والمشاريع المستقبلية
تمارس جنى حالياً دراسات المتاحف من خلال برنامج مشترك بين كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) وجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، برعاية لجنة المتاحف بوزارة الثقافة السعودية. حيث يوفر البرنامج منظوراً مزدوجاً يجمع بين الأطر الدولية والارتباط الثقافي المحلي. وتقول على ذلك:" جعلتني تجربتي هذه واعية نقديًا بالأنظمة المؤسسية التي تعمل فيها الفنون والتصميم: كيف تُشكّل السرديات، ومن تُحفظ تاريخه، وما الذي يُستبعد أو يُؤرشف. هذه الأسئلة مركزية في ممارستي، حيث تسمح لي باستكشاف تقاطعات التصميم والتراث والبنية الثقافية بعمق ووعي أكبر."
الحوارات الثقافية مشروع عائلي
تسعى جنى عبر دراستها العليا ومؤسسة "٢م" إلى دمج الفن بالحوارات الثقافية. حيث توضح الفكرة لـ"هي" قائلة: "٢م هي مجموعة فنية أقودها مع أخي عبدالعزيز ملائكة. ترتكز فكرتنا على أن التصميم هو لغة تحمل المعنى تتشكل من خلال المواد التي نتعامل معها والتراث الذي نحمله. نشأ تعاوننا من اهتمامات مشتركة بالذاكرة والمكان والثقافة."
وتكمل الحديث قائلة:" بهدف تحدي السرديات السائدة وفتح آفاق جديدة. من خلال أعمالنا، نأمل في المساهمة في رفع مستوى المشهد الإبداعي، مقدمين تصاميم مدروسة، متجذرة، وتحمل صدى ثقافي عميق. نحن دائماً منفتحون على مشاريع وتعاونات جديدة تتماشى مع هذه الرحلة."