
خاص "هي": صناعة الشهرة.. قصة الترند من أضواء السينما والتليفزيون إلى شاشات تيك توك
يدّعي البعض أن التريند وليد وسائل التواصل الاجتماعي، وأنها السبب في ظهوره وانتشاره، وأن الحياة قبله كانت هادئة، تسودها الأخلاق الحسنة، والدنيا ربيع والجو بديع. لكن هذه الفكرة تحمل قدرًا كبيرًا من المغالطة؛ فالتريند اختراع بشري قديم، يستعين بوسائل العصر المتاحة لتحقيق أهدافه. قبل أن يخترع تيك توك، كان التريند يصنع في استديوهات هوليوود وساحات الكولوسيوم الرومانية. لقد استُبدلت الصحافة الورقية والإذاعة والتليفزيون اليوم بمواقع التواصل الاجتماعي، واختُصرت المسافة بين التفكير والتنفيذ والوصول إلى الجمهور؛ يستطيع أي شخص ارتجال تريند في بث مباشر يراه الجميع في اللحظة ذاتها، بلا وقت للمراجعة أو التراجع.
حمى المانشيتات
من هوليوود الكلاسيكية والأفلام المصرية القديمة إلى أعمال نتفليكس الحديثة، ومن الكوميديا الفرنسية إلى الكوميديا السوداء البريطانية، تظل الفكرة واحدة: الشهرة طريق نهايته المجد والثراء، والوسيلة قد تكون صادمة بقدر ما هي مبتكرة. لكن بينما كانت صحف الأمس ومسرح الأمس تمنح لحظات الظهور ببطء وتدرج، فإن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تمنحها بسرعة البرق، وتنتزعها بالسرعة ذاتها، لتثبت أن التريند، في النهاية، مجرد مرآة زمنية لغرائز لم تتغير.
تبدأ الحكاية بصحفي فاشل يُدعى تشاك تاتوم (كيرك دوجلاس)، في فيلم "Ace in the Hole" (1951) للمخرج بيلي وايلدر، حيث يصادف حادث انهيار كهفي يحاصر رجلًا في الداخل. بدلًا من إنقاذه بسرعة، يقرر تاتوم إطالة عملية الإنقاذ عمدًا، ليحولها إلى عرض جماهيري ضخم يجذب الصحافة والسياح، ويضمن الصحفي لنفسه مساحة صاخبة للأضواء. الفيلم يكشف بلا رحمة كيف يمكن أن تتحول المأساة الإنسانية إلى وسيلة انتهازية، وكيف يصنع الإعلام من الألم عرضًا مربحًا.
جمهور شاشة التلفاز
بعد ربع قرن، جاء فيلم "Network" (1976) للمخرج سيدني لوميت، ليعيد صياغة نفس الفكرة ولكن بجرأة أكبر، حيث يعلن المذيع هاوارد بيل (بيتر فينش) في حديث غاضب على الهواء أنه سينتحر في بث مباشر. بدلًا من إيقافه، استغلت القناة هذا الانهيار النفسي لرفع نسب المشاهدة، وتحوله إلى نجم تلفزيوني غريب الأطوار. ما فعله "Network" كان استباقًا مذهلًا لثقافة "كل شيء مباح من أجل المشاهدات" التي تحكم المحتوى اليوم.

وفي نهاية التسعينيات، جاء "The Truman Show" (1998) للمخرج بيتر وير، ليقلب الصورة رأسًا على عقب. هنا، البطل (جيم كاري) لا يسعى للشهرة، بل يجد نفسه نجمًا لبرنامج تلفزيوني شهير دون علمه، في انعكاس مرير لمجتمع يستهلك حياة الآخرين كترفيه. الفيلم يطرح سؤالًا لا يزال راهنًا: هل يمكننا أن نعيش دون جمهور؟ وهل تُعرّف هويتنا من خلال أعيننا أم من خلال عيون الآخرين؟
هذه الأفلام، رغم اختلاف أساليبها، تشترك في جوهر واحد: الشهرة ليست مجرد حلم، بل لعبة قوة، والحدث الصادم — سواء كان مأساة، فضيحة، أو حتى حياة يومية — يمكن أن يتحول إلى سلعة تباع وتشترى في سوق الانتباه.

الجريمة المزيفة والشهرة الحقيقية
الهوس بالظهور ليس اختراعًا عصريًا؛ إنه غريزة بشرية قديمة، تغذت على خوف الإنسان من أن يختفي صوته وسط الزحام. منذ بدايات القرن العشرين، التقطت السينما هذا الخوف وحولته إلى قصص، أبطالها أشخاص مهمشون أو موهوبون يسعون للشهرة بأي وسيلة، حتى لو كانت جريمة مزيفة أو فعلًا شاذًا يثير الجدل.
في ثلاثينيات القرن الماضي، قدمت المسرحية الفرنسية "Mon Crime" (1934) نصًا ذكيًا عن هوس الشهرة، ولكن من منظور كوميدي. الحكاية عن ممثلة شابة مغمورة تتهم ظلمًا بقتل منتج مسرحي متحرش، فتستغل الموقف وتدعي ارتكاب الجريمة عمدًا أمام الصحافة لتكسب الشهرة والفرص. المفارقة أن براءتها تُكتشف في النهاية، لكنها تظل محتفظة بمجدها كممثلة صاعدة، وكأن الحقيقة أقل أهمية من الحكاية التي يفضل الجمهور تصديقها.
هذا النص ألهم عدة نسخ سينمائية، آخرها فيلم "The Crime Is Mine" (2023) للمخرج فرانسوا أوزون، الذي أعاد القصة في أجواء باريس ثلاثينيات القرن، مضيفًا لمسات من الفانتازيا البصرية والكوميديا السوداء. في هذه النسخة، الشهرة لا تأتي فقط من الجريمة المزعومة، بل من القدرة على التحكم في السرد الإعلامي، حيث تُظهر البطلة وذكاؤها كيف يمكن إعادة صياغة الحقيقة لتناسب العناوين.
في هذه القصص، يصبح "الحدث الملفت" هو البوابة الذهبية للانتباه، سواء كان إنقاذًا بطوليًا أو فضيحة مفتعلة أو اعترافًا مزلزلًا. واللافت أن البنية النفسية لهذه الشخصيات تكاد تتطابق عبر العقود والثقافات: مزيج من الطموح الجارف، والرغبة في الاعتراف، والاستعداد للتضحية بالسمعة أو الأمان في سبيل لحظة تحت الضوء.
من ساحات الكولوسيوم إلى شاشات الهواتف
مع دخول الألفية الجديدة، لم تعد صناعة "الحدث الملفت" حكرًا على الصحف أو شاشات السينما. ظهور الإنترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي، نقل اللعبة إلى مستوى جديد من السرعة والانتشار. لكن جوهر الفكرة بقي كما هو: البحث عن لفت الأنظار بأي وسيلة.
في عالم اليوم، تُقاس قيمة الشخص أحيانًا بعدد المتابعين أو المشاهدات التي يحصدها، وكأن الشهرة تحولت إلى عملة تُتداول في سوق مفتوحة. في حلقة "Nosedive" من مسلسل "Black Mirror"، نرى عالمًا يتحدد فيه وضع الإنسان الاجتماعي والقانوني بعدد التقييمات والـ"لايكات" التي يحصل عليها من الآخرين. البطلة (برايس دالاس هوارد) تسعى بجنون لتحسين تقييمها لتضمن قبولها في دائرة النخبة، لكن أي تصرف غير محسوب أو تفاعل سلبي يجعل مكانتها تنهار بسرعة مرعبة. الحلقة ليست مجرد خيال علمي؛ إنها مرآة صادمة لواقع منصات اليوم، حيث تتحول القبولات الرقمية إلى سلطة، والنبذ الافتراضي إلى عقوبة حقيقية. في الواقع، بعض الشركات تُراجع شعبية الموظف المتقدم للوظيفة على حسابات السوشيال ميديا قبل التعاقد معه.
في حلقات أخرى من مسلسل "Black Mirror" مثل "Fifteen Million Merits" و"The Waldo Moment"، يقدم نسخًا مختلفة من نفس الهوس: شخصيات تُدفع دفعًا إلى أداء استعراضات صادمة أو تبني مواقف متطرفة من أجل كسب الجمهور، حتى لو كان الثمن كرامتها أو مبادئها.
هذه الأفكار ليست جديدة على الإنسانية. قبل قرون، كان جمهور الكولوسيوم في روما يتجمعون لمشاهدة المصارعين يقاتلون حتى الموت أو يواجهون وحوشًا مفترسة. لم يكن الهدف التعاطف أو العدالة، بل الإثارة والإشباع الغريزي لرؤية حدث دموي حي. الفرق الوحيد أن وحوش الأمس كانت أسودًا ونمورًا، أما وحوش اليوم فهي وحوش الفضائح والتريند، تلتهم سمعة البشر وحياتهم الاجتماعية أمام جمهور يضغط زر الإعجاب أو إعادة النشر.
التريند لغة كونية
تتكرر القصة بأزياء وأدوات مختلفة: إنسان على الهامش يقرر أن يقتحم دائرة الضوء، حتى لو كان الثمن الحقيقة نفسها. تلك القصص، سواء قُدمت في إطار درامي ثقيل أو كوميديا سوداء لاذعة، تكشف عن حقيقة نفسية عابرة للزمن والثقافات: الشهرة ليست فقط اعترافًا بالوجود، بل وعد بالخلود، ولو في ذاكرة جماعية سريعة النسيان.
الفارق بين الأمس واليوم هو أن أدوات صناعة التريند أصبحت أسرع وأقل تكلفة. في الماضي، كانت الصحافة والمسرح والسينما تحتاج إلى وقت وجهد لتخلق قصة تسيطر على الرأي العام. أما اليوم، فيكفي مقطع فيديو من 30 ثانية أو منشور مثير للجدل لتصل الرسالة إلى ملايين البشر. ومع ذلك، تبقى دورة الشهرة أقصر وأكثر قسوة: إذا كان بطل فيلم كلاسيكي يستطيع الاحتفاظ ببريقه لأشهر أو سنوات، فإن "نجوم" التريند المعاصر قد يذبلون قبل أن ينتهي الأسبوع.

هذه المفارقة تجعلنا نرى التريند ليس كظاهرة مرتبطة بزمن أو منصة بعينها، بل كلغة إنسانية للتعبير عن الطموح والخوف والرغبة في الانتماء. السينما، قديمها وحديثها، لم تكتفِ برصد هذه الظاهرة، بل ساهمت في تشكيلها — أحيانًا بوعي، وأحيانًا أخرى بدافع الحكاية. وفي كل الأحوال، تُثبت الأعمال الفنية، من هوليوود إلى أوروبا، أن "الحدث الملفت" سيبقى دائمًا البوابة المفضلة إلى عالم الشهرة، مهما تغيّرت شاشات العرض.
الشهرة قد تُبنى في يوم، وتنهار في الغد، بهذا المعنى، يمكن النظر إلى الأفلام الكلاسيكية التي تناولت الهوس بالحدث الملفت كخرائط مبكرة لما نعيشه اليوم على تيك توك وإنستغرام. الأدوات تغيرت، لكن الدوافع النفسية واحدة: الخوف من النسيان، والرغبة في أن يكون المرء حديث الجميع ولو لوقت قصير.
الصور من حسابات الأفلام على السوشيال ميديا.