شادية وسعاد حسني الأكثر تعبيرًا عن أزمات وأحلام النساء في عالم نجيب محفوظ السينمائي!

في الذكري السادسة عشرة لرحيل "نجيب محفوظ" (11 ديسمبر 1911- 30 أغسطس 2006) لا زال عالمه الروائي جزء من تاريخ مصر الدرامي على شاشة السينما؛ عالم الحارة المصرية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث المدينة القديمة مُنهكة بالصراعات الإجتماعية والأحلام المُجهضة، والحكايات الأسطورية تُروى عن العدل والظلم في عالم يحكمه الفتوات، وثرثرة الأفندية على ضفاف النيل تتحول إلى دخان، وجرائم عالم الطبقات الدنيا تُدمي قلب الليل. جزء كبير من هذا العالم بطلاته نساء مقهورات، سحقهن الفقر وتقاليد الحارة الصغيرة والمدينة الكبيرة.

البدوية النبيلة والفارس المغوار!

لا يُمكن فصل صورة المرأة في الأعمال السينمائية المأخوذة عن روايات وقصص "نجيب محفوظ" عن الأعمال التي كتبها مُباشرة للسينما؛ فأول سيناريو كتبه خصيصاً للسينما هو سيناريو فيلم (عنتر وعبلة) إخراج "صلاح أبو سيف"، وبطولة "سراج منير" و"كوكا"، وصور هذا الفيلم شخصية البدوية النبيلة قوية الشخصية، وهى الصورة الأنثوية الموازية لصورة الفارس الشجاع بطل القبيلة، وقد جسدت الممثلة "كوكا" الشخصية بصورة ناجحة جعلتها تكررتقديمها في أدوار شبيهة في العديد من الأفلام. وكتب "نجيب محفوظ" سيناريو فيلم (ريا وسكينة) الذي صور فيه قاتلتين شقيقتين، تدرن عصابة لخطف وقتل السيدات بهدف سرقة مصوغاتهن، والمرأة في أفلام محفوظ الأخرى تمتلك قوة الشخصية والدهاء، ولكنها لا تمتلك القدرة على مواجهة تقاليد وظروف المجتمع القاسية.

شادية.. حميدة الزقاق ونور اللص والكلاب!

لا تُعد مشاركة "شادية" في سينما "نجيب محفوظ" هى الأبرز بسبب العدد فقط (ستة أفلام)؛ بل بسبب تصويرها لشخصيات بطلات بعض أهم روايات محفوظ بصورة إبداعية أصيلة، وأداء ملفت وجذاب وقدرة على التعبير وتلون الأداء، ويُمكن أن نقول أن "شادية" تختلف في الشكل والمضمون في سينما "نجيب محفوظ"، وشخصياتها ذات أبعاد مركبة شديدة الحساسية، وكان كل دور بمثابة تحدي لصورتها النمطية في السينما، وهى صورة الفتاة المتحفظة الرومانسية المرحة. 

برعت "شادية" في فيلم (ميرامار) في تجسيد شخصية زهرة، الشابة القروية ذات الثقافة المتواضعة التي تعمل خادمة في بنسيون ميرامار بالأسكندرية بعد هربها من جدها الذي كاد يُجبرها على الزواج من رجل عجوز، وبعض أدوارها الأخرى لشخصيات جدلية؛ مثل نور فتاة الليل التي تحب حسين مهران وتدعمه في رحلة إنتقامه ممن خانوه في فيلم (اللص والكلاب)، وحميدة في (زقاق المدق)، ابنة الحارة الجميلة ومطمع الرجال التي تجرها طموحاتها إلى عالم الرذيلة؛ وكريمة الحسناء زوجة العجوز صاحب الفندق التي تقع في غرام البطل أحد نزلاء الفندق في فيلم (الطريق). 

أضافت "شادية" في تلك الأعمال العمق النفسي لهذه الشخصيات؛ وهذا جعلها أكثر إنسانية وواقعية، وبعيدة عن التنميط والسطحية؛ فهى شخصيات تدفع المُشاهد إلى التعاطي والتعاطف مع أزمتها وحيرتها وضعفها الإنساني، بعيداً عن فكرة حب الشخصية أو رفض بعض سلوكياتها.

رغم أن ثلاثة من أبرز أدوار "شادية" كان دور الساقطة، لكنها لم تلجأ إلى حيل الأداء النمطي والإبتذال لتصوير الشخصية؛ فهى في أفلام مثل (اللص والكلاب) و(زقاق المدق) و(الطريق) كانت الإنسانة التي هزمتها ظروف الحياة، وانحرفت مُرغمة عن الطريق المستقيم، ولكنها تُحاول دائماً الهروب والبحث عن وسيلة للنجاة.

سعاد حسني.. الطريق إلى القاهرة 30!

شاركت "سعاد حسني" في بطولة فيلم (الطريق) بدور مساعد، وهو دور إلهام، الموظفة بالصحيفة التي ستنشر إعلان البطل" رشدي أباظة" الذي يبحث عن والده، وتنجذب إلهام للبطل الذي يرى في حبهما طوق نجاة لحيرته واحباطاته واغواء زوجة صاحب الفندق الذي يُقيم فيه، وتتناقض إلهام بصفاتها الرقيقة والنبيلة عن شخصية كريمة الملتوية زوجة صاحب الفندق العجوز، ولكن البطل كان قد تجاوز المدى وضل الطريق في الحياة، وتورط في جريمة قتل صاحب الفندق العجوز.

رغم حضور "سعاد حسني" على الشاشة في فيلم (الطريق) لكن الدور الأجرأ لها في عالم "نجيب محفوظ" هو دورها في فيلم (القاهرة 30)، ويُقال أن الدور كان لشادية وإعتذرت عنه بسبب الحمل، ولم يتم الحمل لكن الدور ذهب إلى "سعاد حسني"، التي جسدت دور إحسان شحاتة، الفتاة الفقيرة التي تقبل الزواج من موظف متواضع يعمل لدى وكيل وزارة، وهو زواج صوري دبره  وكيل الوزارة الفاسد للتغطية على علاقته الآثمة مع إحسان، وقد برهنت "سعاد حسني" الفتاة المرحة المدللة في سينما الستينيات على قدرتها على تقديم لون مختلف وصعب لشخصية نسائية شديدة التعقيد والتركيب.

أميرة حبي انا وأمينة سي السيد!

فتح فيلم (القاهرة 30) الطريق أمام سعاد حسني لأداء أدوار نسائية أخرى من عالم "نجيب محفوظ"، أكثر عُمقاً وإنسانية، وهى مرحلة تركزت من خلال أعمالها في حقبة السبعينيات من القرن الماضي؛ ومن تلك الأدوار شخصية زينب في فيلم (الكرنك)، وهى طالبة جامعية تُشارك في الأنشطة الطلابية السياسية؛ مما يؤدي للقبض عليها وتعذيبها وتجنيدها للكشف عن أسماء وأنشطة زملائها المعارضة في الجامعة.

قبل فيلم (الكرنك) قدمت "سعاد حسني" دور أميرة في فيلم (أميرة حبي انا)، وهو مأخوذ من مجموعة (المرايا) القصصية، والقصة عن شابة مرحة تزوجت مدير الشركة الوسيم بعد قصة حب، وقد قبلت أن يكون زواجهما سراً؛ لأن المدير مُتزوج ويعيش تجربة زواج تعيسة مع ابنة صاحب الشركة، ورغم ميلودرامية علاقة الحب والزواج من إمرأتين، لكن الشاعر والرسام "صلاح جاهين" قام بتحويل احدى قصص المجموعة القصصية (المرايا) إلى سيناريو يجمع بين شخصية "سعاد حسني" السينمائية الرومانسية المرحة، وعالم "نجيب محفوظ" الذي يتشابك مع تعقيدات النفس البشرية وصعوبات الواقع.

على عكس أميرة المتحررة جائت شخصية أمينة (آمال زايد) مطيعة ومُنقادة لزوجها الصارم سي السيد (يحى شاهين)، وقد خلدت "آمال زايد" شخصية أمينة على الشاشة حتى أنها أصبحت رمزاً للزوجة عديمة الشخصية التي تتقبل تعنيف وتسلط زوجها راضية، وتغض البصر عن تناقضاته ونزواته، وهناك أدوار نسائية بارزة أخرى قدمتها عدد من الممثلات؛ منها شخصية نفيسة "سناء جميل" في فيلم (بداية ونهاية)، وجسدت دور الشقيقة المُضحية، وان كان جزء كبير من تفاصيل دورها ونهايتها مُضاف لحبكة السيناريو وبعيد عن أحداث الرواية الأصلية. 
 

الصور من حساب جامع الأرشيف مكرم سلامة على فيسبوك وحساب إسعاد يونس على انستجرام وAFP.