غودزيلا "وحش الشاشة" في عامه الستين ينقذ البشرية

قبل ستين عاما تعرف جمهور السينما لأول مرة على غودزيلا، نجم نجوم وحوش الشاشة (مرتبة لا ينافسه فيها سوى الجبار كينغ كونغ) في الفيلم الياباني الذي أنتج 1054٤. ليس من قبيل الصدفة اذا ان تحي هوليوود هذه الذكرى السينمائية بإنتاج ضخم ومبهر جديد احتفاءً بوحش الشاشة المخضرم (مع الاعتذار للراحل فريد شوقي). 
 
غودزيلا نجم مخضرم بلا جدال ويكفي ان نعلم انه لعب بطولة ثلاثين فيلما منذ اكتشافه سينمائيا، كانت له البطولة المطلقة في معظمها باستثناءات قليلة لعل ابرزها الفيلم الذي ضمه وعدوه اللدود كنغ كونغ. ولان باكورة اعمال غودزيلا كان يابانيا شكلا ومضمونا وإنتاجا، صار اسمه مقرونا بهذه الصرخة "غودزيلالالالالالالا" التي يطلقها كل ياباني حين تقع عليه عيناه لأول مرة.ولنفس السبب حافظت هوليوود على العاصمة اليابانية طوكيو موقعا رئيسيا للأحداث في معظم تلك الأفلام. 
 
الجد الأكبر لغودزيلا الذي ولد قبل ستين عاما كان تعبيرا مجازيا عن المناخ السياسي لتلك الحقبة، لانه ظهر بعد سنوات قليلة من الكارثة النووية الاولى في تاريخ البشرية حين ضربت هيروشيما ونغازاكي بالقنابل النووية مخلفة دمارا بشريا وماديا هائلا كان كفيلا بإنهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة. 
 
حجم الدمار الذي يلحقه غودزيلا بطوكيو، في كل خطوة بقدميه العملاقتين، يطيح بالبنايات ويقذف السيارات كلعب الأطفال ويهدم الجسور بضربة واحدة من يده، كان كفيلا بتذكير الجمهور الياباني بشكل خاص بذلك الكابوس النووي الذي عاشوه، وايضاً تذكرة للبشرية جمعاء بالثمن الباهظ الذي يمكن ان تدفعه ان هى أقدمت على إستخدام السلام النووي مرة ثانية، خاصة وان كل القوى العالمية الكبرى صارت تمتلك هذا السلاح الفتاك كما ان العديد من صغار الدول تحاول اللحاق بهذا الركب المخيف. 
 
الفيلم الجديد لا يختلف كثيرا لا في بيئة الأحداث أو من حيث الرسائل المتضمنة حول التبعات الكارثية للتجارب النووية، والتي تعكس الغرور البشري الذي يجعل الانسان يعتقد ان بوسعه تطويع الطبيعة والتحكم فيها. 
 
بعد لقطات قصيرة وسريعة " أبيض وأسود" لعدة تجارب نووية تجري في الخمسينات، تبدأ الأحداث عام 1999، اى قبل وصول الألفية الجديدة بعام واحد، مع العالم " جو برودي" (برايان كرانستون) يصرخ في قلق محموم على الهاتف مع زملائه في المفاعل النووي في " جانجيرا" باليابان حيث يعمل هو وزوجته، بعد ان رصدت الأجهزة بوادر هزة ارضية قوية قادمة، لكن أحدا من رؤسائه لا ينصت له مؤكدين ان الهزة ليست سوى إحدى توابع زلزال ضرب الفيلبين، في مشهد سابق بالفيلم. يطلب هو من زوجته " ساندي" (جولييت بينوش) ان تهبط الى غرفة التحكم لتتأكد بنفسها من ان كل شئ على ما يرام، ويصر في الوقت ذاته على طلب اجتماع عاجل لاقناع رؤسائه بخطورة الموقف.
 
 إلا ان القدر لا يمهلم فيقع المحظور وترتج الأرض تحت وقع الزلزال الذي حذر منه " جو" ضاربا اركان المفاعل، وقبل ان تبدأ اجراءات اغلاق المفاعل تقع هزة اخرى اشد، تؤدي الى تسرب الاشعاعات من المفاعل، فيسارع " جو" الى الاتصال بزوجته طالبا منها الصعود فورا قبل ان تطالهم الاشعاعات القاتلة. وفي سباق محموم مع الوقت، تهرول الزوجة ورفاقها، وفي نفس الوقت يتعين على " جو" الهبوط الى اسفل ليغلق الأبواب الحديدية المحكمة لغرفة التحكم لمنع تسرب الاشعاعات. 
 
وفي مشهد مأساوي مؤثر نرى الزوجة وزملائها يعدون بأقصى سرعة لكنها تضطر للتوقف فجأة لمساعدة زميل تعثر. هذه الثواني المعدودة تكلفهم حياتهم جميعا بعد ان تلحق بهم الاشعاعات المتطايرة بسرعة كبيرة، في نفس اللحظة التي يصلون فيها الى البوابة، وفي مشهد موجع تطلب "ساندي" من زوجها اغلاقها لينجو ومن معه، فينصاع مفجوعا باكيا، وهو يراها عبر النافذة الزجاجية للبوابة للمرة الأخيرة عاجزا حتى ان يودعها، في اليوم الذي صادف عيد ميلاده، حيث كانت الزوجة قد اخبرته قبل قليل ان ابنهما الصغير "فورد" قد اعد له مفاجأة، نعرف لاحقا انها لافتة تحمل تهنئة بعيد ميلاده. 
 
الى هنا يستدعي الفيلم فورا الى الذهن الكارثة الطبيعية الأخيرة التي لحقت حلت باليابان، حين ضرب زلزال بقوة 9 درجات على مقياس ريختر، الساحل الشرقي للمحيط الهادي المقابل للعاصمة طوكيو، في الحادي عشر من مارس 2011، وكان الأقوى الذي يضرب اليابان، وخامس اقوى زلزال في العالم منذ بدء السجلات 1900. وأطلق الزلزال موجات مد جبارة او ما يعرف " بالتسونامي" بلغ ارتفاع بعضها اربعين مترا، وانطلقت داخل اليابسة الى مسافة عشرة كيلومترات. وفضلا عن ضحايا الزلزال الذي خلف اكثر من 15 الف قتيل، ونحو 6 الآف جريح واكثر من 2000 مفقود، الحق الزلزال اضرارا جسيمة بالمفاعلات النووية الثلاث في محطة " فوكوشيما" النووية لتوليد الطاقة.  
 
أين العزيز " غودزيلا"؟ 
يقفز بنا الفيلم الى الوقت الحالي، بعد خمسة عشر عاما من دمار مفاعل " جانجيرا" وقد بات الموقع منطقة محظورة.  الابن " فورد" (ارون تايلور-جونسون) صار شابا والتحق بالبحرية الامريكية، وهو عائد في عطلة الى منزله في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وقد اعدت له زوجته " إل" (اليزابيث أولسون) استقبالا عائليا صغيرا مع ابنهما " سام". لكنه يتلقى مكالمة مفاجأة تخبره ان والده تم القبض عليه في طوكيو لأنه حاول الدخول الى المنطقة المحظورة، فيضطر الابن لترك عائلته ويسارع لمساعدة ابيه. 
 
حتى الآن مضى ما لايقل عن ساعة ونصف الساعة من الفيلم ولم نر اثرا يذكر لغودزيلا. الاشارة الوحيدة الى وحش الشاشة وردت في مشهد ببداية الفيلم في الفيلبين، حيث انهار موقع للتنقيب عن اليورانيوم، وعثر فريق الباحثين هناك على آثار هيكل عظمي لمخلوق عملاق يملأ الكهف بأكمله، بدا أنه شق جدرانه متجها الى البحر. لابد انه غودزيلا اذا. لسنا متأكدين، فنحن لم نتشرف بلقائه بعد. 
 
في طوكيو يدفع الابن " فورد" الكفالة للافراج عن ابيه، الذي كان قد اصيب بانهيار عصبي عقب الحادث المأساوي، وهو ما اثر على علاقتهما سلبا. يفشل الابن في اقناع الوالد بالعودة معه الى الولايات المتحدة، فالأب يصر على الدخول ثانية للموقع ليذهب الى منزله ويسترد سجلات ابحاثه، لعله يعثر على اجابة للأسئلة المحيرة التي تطارده كل هذه السنوات، حول السبب الحقيقي الكامن وراء الكارثة، وايضا بحثا عن صورة يحتفظ بها لزوجته. 
 
وهناك يكتشف ان الموقع بات خاليا من الاشعاعات حين يرى بعض الكلاب الضالة تبحث عن طعام، وبعد ان يجمع الأب متعلقاته من المنزل يقبض عليهما مرة ثانية، ويقتادا الى التحقيق وهناك يلتقي " جو" بزميله العالم الياباني " سيريزاوا" ( كن واتانابي). الذي يعبر له عن قلقه من نتوء ضخم يبرز من سقف المفاعل على شكل بيضاوي، وقبل ان يكتمل حوارهما، يبرز من هذا النتوء او " الشرنقة" مسخ  عملاق متعدد الأرجل وله ايادي ذات مخالب كبيرة، يجمع بين ملامح العنكبوت والجراد نعرف من " سيريزاوا" انه يدعى  " موتو MUTO". ( من اين جاء بهذا الاسم؟ لا أحد يدري).
 
ويشرح العالم الياباني ان "موتو" على ما يبدو يجد في اثر مخلوق عملاق آخر شوهد يروم البحر قبل بضع سنوات، وبمراجعة تسجيلات التجارب النووية التي شاهدناها في البداية في الخمسينات، يتبين انها لم تكن تجارب بل محاولات لقتل هذا المخلوق الذي اطلق عليه اسم " غودزيلالالالا"، وانه يحاول العودة الآن من غياهب الزمن.
 
وهكذا يخيب أملنا للمرة الثانية، ذهبنا الى السينما لرؤية وحش الشاشة المفضل غودزيلا، لكنه يبخل علينا بإطلالة ولو قصيرة حتى الآن، نسمع عنه دون ان نراه. وبدلا منه نتابع " موتو" يعيث في الأرض فسادا  محطما كل ما يعترض طريقه، والمئات يفرون امامه. وفي خضم هذا الدمار يصاب كل من الأب والإبن، وينقلا للعلاج. ونكتشف بعد قليل أن أخطر ما في هذا " الموتو" ان غذائه المفضل هو المواد النووية، وهذا ما يفسر خلو موقع المفاعل المهجور منها، كما يفسر اختفاء غواصة نووية روسية بعد قليل، ويتضح أن " موتو" أكلها ( بالهنا والشفا).       
 
بعد قليل تتأكد نظرية " سيريزاوا" حين يتم رصد غودزيلا بالفعل في لقطة قصيرة ( اخيرا وبعد طول انتظار)، نراه خلالها  متجها الى البحر حيث يحاول الأسطول الاميركي اللحاق به دون جدوى. 
 
منذ هذه اللحظة يتحول الصراع الدرامي في الفيلم من معركة بين البشر والوحوش الضارية، الى معركة بين تلك الوحوش. حين يقرر الجيش الاميركي تولى مقاليد الأمور لإنقاذ البشرية من خطر هذه المخلوقات، يتضح ان الوسيلة الوحيدة للقضاء على " موتو" قد تكون باستخدام السلاح النووي، ولابد ان يحدث ذلك بأقصى سرعة قبل ان يتمكن " موتو" من الوصول الى رفيقته " موتو" الأنثى، حيث حان موسم التزاوج، وهو ما يعني تكاثر فصيلة " الموتو" على كوكبنا.  لكن هذا في حد ذاته يحمل مخاطر كبرى، أولا لأن " موتو" يتغذى على المواد النووية، وثانيا لأن استخدام السلاح النووي يقتضي اولا اقتياد  موتو" الى عرض البحر حتى لا تصل الاشاعات الناتجة الى المناطق المأهولة. وهكذا يصبح الأمل الوحيد امام البشرية للنجاة من هذا المأزق الخطير يكمن في .......  " غودزيلالالالالا".    
 
لعلها المرة الأولى التي يلعب فيها غودزيلا دورا خيرا، او دور البطل المنقذ وليس الشرير، وان رغما عنه وليس بمحض ارادته. فمعركته الفاصلة مع " موتو" ليس لها علاقة بنا نحن البشر، وانما هى جزء من صراع البقاء التي تفرضه الطبيعة، ولابد  من اعادة التوازن لميزان الطبيعة الذي اختل بظهور هذا المسخ " موتو" الذي يقتات على المواد النووية، اكثر الأغذية فتكا في العالم. لكن معركة غودزيلا لن تكون سهلة، اذ سيتعين عليه قتال الزوجين " موتو" معا في نفس الوقت بعد ان يتمكنا من اللقاء والتزاوج. ولكم ان تتخيلوا شراسة المعركة وتلك هى اللحظات التي ينتظرها الجمهور منذ بداية الفيلم على أحر من الجمر. 
 
أكثر ما يحيرني في هذا الفيلم هو قر ادوار أبطاله، بدرجات متفاوتة. "برايان كرانستون" واحد من ألمع الممثلين الاميركيين حاليا، وحصل على جائزة أفضل ممثل تليفزيوني لثلاث سنوات متتالية عن دوره في "التحول شرا Breaking Bad" واحد من انجح المسلسلات في السنوات الأخيرة.  اما "جوليت بينوش" فهى نجمة في السينما الفرنسية وفي هوليوود أيضا، في حين ان دورها في الفيلم لم يتجاوز خمس دقائق. ولا يستثنى من هذا البطل الأول للفيلم، غودزيلا نفسه، الذي لا يتجاوز طول مشاهد ظهوره في الفيلم كله نصف ساعة على افضل تقدير. هل السبب انه لم يحصل على الأجر الذي طلبه! أم ان بلوغه الستين يعني انه حان وقت تقاعده. هذا ما قد نعرفه في قادم الأيام.