رؤية نقدية ـ "بودي جارد" .. حينما أصبح "عادل إمام" هو المسرحية !

قال الكوميديان الأمريكي الراحل "جيري لويس" في لقاء تليفزيوني إنه يكسب عيشه من الاستمرار في أداء الجنون، وكان أداءه لشخصياته يجنح إلى الجنون في أغلب أعماله، ورغم تقديمه عشرات الأعمال ذات الأداء "المجنون" لم يمله الجمهور ولم يمل جنونه.. قدم "عادل إمام" عدد قليل من المسرحيات بعد نجاحه الكبير في العمل الجماعي "مدرسة المشاغبين"، وقد حضرت جميع عروض تلك المسرحيات في عروضها الصيفية بالإسكندرية، وأول تلك المسرحيات كانت "شاهد ما شافش حاجة" التي عُرضت بحى الإبراهيمية، على مسرح "لونابارك" الصيفي، وحضرتها مرتين، وكانت المسرحية تلائم موهبة وشخصية "عادل إمام"، وجسد فيها شخصية "سرحان عبد البصير" الشاب الوحيد الساذج المنطوي الذي يواجه شراسة المجتمع، وكان "عادل إمام" يُضيف في كل عرض بعض القفشات والحركات الجديدة التي أصبحت لاحقاً جزء لا يتجزأ من أداءه التمثيلي.

الزعيم ينتقم!

بعد سنوات شاهدت مسرحية "الواد سيد الشغال" مرتين على مسرح السلام على كورنيش سيدي جابر، وكانت المسرحية بداية بناء شخصية "عادل إمام" الجديدة، وأضاف إلى شخصية "سرحان عبد البصير" الغلبان فكرة الإنتقام من مجتمع الصفوة الأرستقراطي، وأخيراً حضرت عرض مسرحية "الزعيم" على نفس المسرح، وكانت الليلة الأخيرة للموسم الصيفي، ومن مفارقات العرض أن "مصطفى متولي" الذي كان يُجسد دور ضابط الأمن قام بأداء دوره على كرسي متحرك؛ بسبب كسر في ساقه، ولم يفرق الأمر كثيراً مع جمهور يحضر لمُشاهدة "عادل إمام" وحركاته وافيهاته، ولا يهمه كثيراً حال الممثلين أو حتى دراما المسرحية التي كانت استمرار لفكرة انتقام "الغلبان" من الكبار.

مشهد من مسرحية  "بودي جارد"

حضرت أيضاً إعادة لمسرحية "مدرسة المشاغبين" بنفس أبطالها، ما عدا "أحمد زكي" الذي قدم دوره "محمود الجندي"، وكان الجمهور الذي شاهد المسرحية عشرات المرات في التليفزيون وأنا معهم نضحك على نفس الافيهات التي ضحكنا عليها عشرات المرات، ولم تسنح لي الفرصة لأشاهد مسرحية "بودي جارد" على المسرح، وقد شاهدتها مثل الجميع على منصة "شاهد" بعد 22 عاماً من عرضها لأول مرة، وهى إمتداد لأسلوب وحالة مسرحيتى "الواد سيد الشغال" و"الزعيم"، ولكن بفنيات أقل.

المرحلة "العادل إمامية"!

هناك مرحلة أسس فيها "عادل أمام" شكل مسرحه الكوميدي، وتبدأ بمسرحية "شاهد ما شافش حاجة"، ومن أساسيات هذا المسرح شخصية البطل الفقير الضعيف الذي يعيش حياته على هامش المجتمع، هو ممثل الأطفال المغمور الذي يجد نفسه شاهد رئيسي في جريمة قتل جارته في "شاهد ما شافش حاجة"، وهو سيد الشغال الغلبان الذي يُلقن العائلة الثرية التى يعمل لديها درساً بعد قيامه بدور المحلل لإبنتهم في "الواد سيد الشغال"، وهو الكومبارس شبيه رئيس الجمهورية الذي يلعب دور الرئيس الميت في "الزعيم"، وكالعادة يستغل الظرف الذي يسنح له ويحاول تغيير طريقة الحكم لصالح الشعب، وهو في "بودي جارد" السجين الذي يتقرب من ملياردير "عزت أبو عوف" يقضي عقوبة بالسجن، ويعمل حارساً خاصاً لزوجته "رغدة" لاحقاً، وحينما يكتشف الزوج وقوع زوجته في غرام حارسها الشخصي يُلفق له تهمة لإعادته للسجن.  

مسرحية  "بودي جارد" لعادل إمام

تظل "شاهد ما شافش حاجة" أفضل مسرحيات "عادل إمام" لأسباب عديدة؛ فهى أخر مسرحية قدمها تحمل عناصر الدراما المسرحية، قبل أن يتحول تدريجياً إلى كوميديان يعتمد في نجاحه على كلاشيهات إفيهاته والمزاح البذىء أكثر من عناصر وفنون الدراما المسرحية، وهو يصنع من زملاءه على المسرح كشافات تُزيد من تسليط الضوء عليه؛ فجزء من دورهم الإنفجار في الضحك في حضرة "عادل إمام"، وقد يبدو الامر مُجرد صدفة لمن شاهد المسرحية مرة واحدة، ولكن من شاهدها أكثر من مرة سيكتشف أن فكرة الممثل الذي لا يتمالك نفسه من الضحك أمام "عادل إمام" مُتفق عليها، وتتكرر كل يوم كجزء من طقوس المسرحية، وباقي عناصر المسرحية مُجرد ديكور مُكمل لتلك الحالة "العادل إمامية".

مسرحية قديمة وضحكات قديمة!

"عادل إمام" نجم أسطوري، وممثل يستطيع تقديم دوره بدون المُبالغة في الأداء، وبدون الحركات المُكررة التي يحرص عليها، وبدون مُشهيات المسرح التجاري الهابطة، ولكنه إختار أن يصنع وجوده على المسرح بهذا الأداء وبهذه الطريقة التي ظهر بها في "بودي جارد"، ومن المُغالطات المُنتشرة في كثير من الكتابات والتعليقات عن المسرحية أنها مسرحية قديمة، وكانت مُضحكة في زمن عرضها، وأننا نضحك على المسرحيات القديمة مثل "العيال كبرت" بدافع النوستالجيا، وهذه الأراء رغم وجاهتها المظهرية هشة وسطحية بصورة عميقة للغاية؛ فالعمل الفني مهما كان بسيطاً يستطيع تجاوز الزمان، وقيمة العمل الكوميدي لا تنحصر في النوستالجيا فقط، وتراث المسرح الكلاسيكي الذي حفظه لنا التليفزيون يحمل فناً وإبداعاُ وبهجة حاضرة لا تذبل مع الزمن، ومسرحيات "عادل خيري" و"فؤاد المهندس" وهى تسبق مسرحيات "عادل إمام" لا تزال مضحكة ومبهجة حتى الآن، و"عادل إمام" نفسه أفضل بكثير في "مدرسة المشاغبين" و"شاهد ما شافش حاجة" من كل أعماله المسرحية اللاحقة.

مسرحية "بودي جارد"

كمُشاهد لأغلب أعمال "عادل إمام" على المسرح يمكن أن أقول أنها تفقد الكثير من مرحها حينما ينقلها التليفزيون، ولكن "بودي جارد" التي بدأت منصة "شاهد" عرضها مؤخرا، كانت نموذج متواضع جدا للإخراج المسرحي والتليفزيوني، وهى بالفعل من أضعف أعمال "عادل إمام" على المسرح، وهى جزء من مرحلة ضعيفة المستوى في تاريخ "عادل إمام" التمثيلي، قدم فيها أعمال متوسطة أيضاً في السينما والتليفزيون، شارك فيها "يوسف معاطي" كاتباً، و"رامي إمام" مُخرجاً، ولم ينجح أى عمل منها إلا ببركة حضور "عادل إمام" وطريقته التي تجد صدى ونجاح لدى قطاع جماهيري كبير، ولا يُمكننا أن نلوم مُمثل على حضوره الطاغي واستمراريته ونجاحه الجماهيري طوال 60 عاماً، قدم خلالها أعمال عظيمة وأخرى أقل بكثير، ولكن يُمكننا نقول أن "بودي جارد" من الأعمال التي تفتقر إلى نُضج الأداء وحبكة الدراما، ومليئة بالصراخ المزعج، وكل قيمتها أنها عمل نادر مثله "عادل إمام" في نهاية التسعينيات، ويُعرض لأول مرة للجمهور في المنازل.