أخصائية علم النفس الدكتور هبة سالم لـ"هي": تحرّري من ظاهرة ارهاق اللطف الزائد للأبد بهذه الوسيلة
هل أصبحتِ تُشبهين تلك الشمعة التي تذوب لإضاءة طريق الآخرين، بينما تغرقين أنتِ في الظلام؟. قبل الإجابة على سؤالي، تأكدي أن حديثي ليس دعوة للأنانية والتخلي عن العطاء؛ لكن مع ظاهرة " ارهارق اللطف الزائد" التي تلاحق الكثيرات، وباتت أحد سمات عصرنا الحالي، حيث "يمنحن من طاقاتهن، وقتهن، ومشاعرهن"، سيستيقظن ذات يوم ليكتشفن أنهن أصبحن أشباحًا لطيفة "موجودات للجميع، غائبات عن أنفسنهن".
لذا تناقشت مع اخصائية علم النفس للبالغين والأسر الدكتورة هبة سالم بعيادات سيج في دبي؛ لنتعرف معًا عبر موقع "هي" على مدى تأثير هذه الظاهرة على شخصية المرأة وكيفية التعامل معها لاستعادة ذاتها من بين ركام التوقعات، واكتشافها أن اللطف الأكثر جذرية هو أن "تكون لطيفة مع نفسها أولًا"؛ فكان معها هذا الحوار الممتع.

في البداية، حديثنا عن مفهوم ظاهرة ارهاق اللطف الزائد؟
بصفة عامة، يُشير هذا المفهوم إلى الحالة النفسية والجسدية التي يعاني منها الشخص بسبب ممارسة اللطف والتعاطف المفرط مع الآخرين بشكل مستمر من دون حدود صحية. أما عن علاماته فهي "الإرهاق العاطفي (الشعور بالاستنزاف النفسي)، تجاهل الذات (وضع احتياجات الآخرين دائمًا قبل الاحتياجات الشخصية)، فقدان الحدود (عدم القدرة على قول "لا" حتى عندما يكون ذلك ضروريًا)، تراكم المشاعر السلبية مثل (الاستياء أو الإحباط)، وتدّني احترام الذات (بسبب الاعتماد على إرضاء الآخرين لتأكيد القيمة الذاتية).
هل ظاهرة ارهاق اللطف الزائد لها أسباب جوهرية؟
نعم، الخوف من الرفض أو عدم القبول، الاعتقاد بأن قيمة الشخص مرتبطة بمدى مساعدته للآخرين، التنشئة التي تشجع على التضحية بالذات، والرغبة في تجنب الصراعات.
ماذا عن تأثير اللطف الزائد والإرهاق على المرأة بشكل عام؟
عندما تقدم المرأة نفسها باستمرار في صورة الشخص اللطيف والمتفهم الذي لا يرفض طلبًا ولا يؤخر مساعدة، يتحول هذا اللطف تدريجيًا إلى عبء داخلي. فالمرأة التي تعيش حالة العطاء المتواصل غالبًا ما تجد نفسها في سباق مستمر بين تلبية احتياجات الآخرين ومحاولة الحفاظ على توازنها النفسي. هذا التوتر المتراكم ينعكس على صحتها في شكل إرهاق عاطفي ونفاد في الطاقة، وقد تتراجع شهيتها للحياة أو إحساسها بالإنجاز الشخصي. ومع مرور الوقت، يصبح اللطف المفرط سببًا رئيسيًا لظهور أعراض القلق، التشتت، وعدم القدرة على الراحة الذهنية.
هل تُسبب هذه الظاهرة تأثيرات سلبية على الصحة النفسية للمرأة؟
نعم، قد يترك اللطف المبالغ فيه آثارًا خفية على صحتها النفسية على وجه الخصوص. فعندما تعوّد نفسها على وضع احتياجات الآخرين قبل احتياجاتها، تبدأ تدريجيًا بفقدان قدرتها على تحديد ما تريده هي حقًا. هذا التنازل المستمر قد يقود إلى شعور بالاستنزاف العاطفي، وإلى تراجع ملحوظ في تقدير الذات، إذ تصبح قيمتها الداخلية مرتبطة برضا من حولها وليس بشعورها هي بقيمتها. علمًا أن كثير من النساء يجدن أنفسهن يكبتن مشاعر الغضب أو التعب خوفًا من إزعاج الآخرين، وهذا الكبت، بمرور الوقت، يتحول إلى ضغوط نفسية قد تظهر في صورة أرق، صداع مستمر، أو انسحاب اجتماعي. عمومًا، يتمثل الانعكاس الأكبر لهذا السلوك في تغيّر العلاقة بين المرأة ونفسها، حيث تصبح أقل رحمة مع ذاتها وأكثر قسوة في الحكم على احتياجاتها الطبيعية.
متى يصبح اللطف الزائد عائقًا عليها؟ وكيف يُمكنها تجاوز هذا الحاجز؟
يصبح اللطف الزائد عائقًا عندما تحس المرأة بأنها تعيش في حالة من التناقض المستمر بين ما تشعر به وما تتظاهر به. يحدث ذلك عادة عندما تسيطر عليها مشاعر الذنب كلما حاولت وضع حدود واضحة، أو عندما تشعر بأنها مسؤولة بشكل مبالغ فيه عن مشاعر الآخرين. عند هذه المرحلة، لا يعود اللطف سلوكًا إنسانيًا فطريًا، بل يتحول إلى دور اجتماعي مرهق يجعل المرأة عاجزة عن التعبير عن رغباتها الحقيقية. أما عن تجاوز هذا الحاجز فيبدأ بالوعي "أي إدراكها أن اللطف ليس واجبًا ثابتًا، وأن الامتناع عن مساعدة الآخرين أحيانًا لا يعني الأنانية، بل احترام الطاقة النفسية". بعد ذلك تأتي خطوة تدرّيب نفسها على قول "لا" بصيغ مهذبة وواثقة، وتعلّمها الاستماع لاحتياجات جسدّها وعقلها معًا من دون شعورها بالذنب. وهنا أؤكد أن التحرر من اللطف المرهق ليس خطوة واحدة، بل عملية بطيئة تُبنى بالتجربة وإعادة اكتشاف الذات.
كيف تبدو مرحلة تطويرها لذاتها في هذه الحالة؟
بما أن اللطف الزائد يأخذ شكلًا مختلفًا في عملية تطوير الذات عن مفهومه التقليدي المرتبط بالإنجازات والنجاحات الخارجية. لذا، يجب أن تبدأ المرأة بتطوير نفسها من الداخل "إعادة بناء العلاقة بينها وبين ذاتـها". هذه المرحلة تقوم على فهم أعمق لما تشعر به، وما تحتاجه فعلًا، وما يجعلها منهكة من دون سبب واضح. علمًا أن تطوير الذات في هذا الإطار يعني "أن تتعرّف المرأة على مشاعرها من دون لوم، وأن تسمح لنفسها بالراحة، وأن تمنح ذاتها مساحة للتعافي من الاستنزاف القديم". كما يشمل تعزيز قدرتها على التواصل بوضوح، والتعبير عن رغباتها من دون خوف، والاعتراف بأن قيمتها الحقيقية لا تُقاس بمدى عطائها للآخرين، بل بمدى احترامها لحدودها النفسية.
ما هي الوسيلة الأساسية لتفاديها تأثيراته السلبية على صحتها النفسية؟
وسيلتها الجوهرية والأساسية هي وعيها المبكر بالإشارات التي يرسلها جسدها وعقلها معًا. فعندما تبدأ بالشعور بأن يومها يثقل عليها رغم أنها لم تقم بجهد كبير، أو عندما يصبح التوتر ملازمًا لها حتى في اللحظات التي من المفترض أن تكون هادئة، فهذه دلائل تحتاج إلى توقف وإعادة تقييم. لذا أنصح بمنح نفسها وقتًا للراحة، وأن تعيد النظر في التوقعات التي تفرضها على ذاتها، وأن تتوقف عن تحميل نفسها عبء إسعاد الجميع. كما أن تخصيصها وقتًا ثابتًا لرفاهيتها الشخصية سواءً كان ذلك "القراءة، أو الرياضة، أو وقتًا هادئًا بمفردها"سيُساعدها على استعادة توازنها الداخلي. وهنا أؤكد على كل امرأة بضرورة تقبل فكرة أن احتياجاتها النفسية ليست ضعفًا، بل ضرورة للحفاظ على استقرارها وتوازنها.

وأخيرًا، كيف تتخلص المرأة من ارهاق اللطف الزائد ضمن عملية تطويرها لذاتها؟.
بما أن تطويرها لذاتها في هذا السياق يعتمد على سلسلة من الممارسات اليومية التي تساعدها على بناء علاقة أكثر صحة مع نفسها؛ لذا يجب أن تتعلم الإصغاء لمشاعرها من دون محاولة إسكاتها، وأن تمارس الوعي الذهني الذي يساعدها على التواجد في اللحظة الحالية بعيدًا عن ضغط التوقعات. كذلك أنصحها بضرورة تبنّي أسلوب "التفكير الإيجابي والأكثر رحمة"، بحيث تستبدل انتقادها الذاتي المستمر بلغة داخلية داعمة. كما يمكنها أن تستفيد من جلسات العلاج النفسي أو الإرشاد، التي تتيح لها تفكيك المعتقدات القديمة المرتبطة بالخوف من الرفض أو الشعور بأن قيمتها تكمن فقط في عطائها المتواصل. ومع مرور الوقت، ستصبح هذه الممارسات جزءًا من نمط حيايتها الذي سيمنحها قوة داخلية متوازنة، ويعيد بناء ثقتها بنفسها بطريقة أعمق وأصدق.