صاعقة الرحمة

خاص بـ هي                   

حين يموت الأذكياء الذين أنفقوا السنين ينحتون أدمغتهم بالمعرفة والعلوم، أين تذهب كل كنوز عقولهم؟ هل تتحلل في التراب لتتحول إلى طاقة أبدية تفيض في بذورها وثمارها؟

حين يموت الأتقياء الصابرون، أين تختفي كل تلك الشحنة النورانية من الخير؟ هل تذوب أيضا في أديم الأرض لتمتزج بمائها مضفية عليه بركة خالدة؟

وكيف بقي خط أبو طارق الجميل فوق أوراقي ورحل هو إلى الأبد؟

وزياد الحسين أو أبو طارق كما تعرفه أجيال الطلاب، كان لفترة طويلة أمين مكتبة الآداب في جامعة دمشق، وهو في عقده الخمسيني، مربوع القامة، سمرته الخفيفة وشاربه الأسود وملامحه القوية تنبئك بأنه من الجزيرة السورية وتحديدا من مدينة دير الزور، الشرق الذي يضخ إلى باقي سورية، إضافة إلى الخير والقمح والماء والكهرباء، الناس الطيبين المعروفين بالشهامة والفطرة الصافية والبساطة والأمانة والوفاء، والذين تميزهم فورا بلغتهم العربية السليمة، التي يحسنون لفظ مخارج أحرفها.

درس أبو طارق اختصاص الأرشفة والمكتبات في إحدى جمهوريات ما كان يعرف في ذلك الوقت بالاتحاد السوفييتي، حيث أرسل في منحة دراسية ضمن مئات غيره، وبعكس معظمهم، فإن واسطته للإيفاد اقتصرت على تفوقه ودعاء الوالدين.

تعرفت إليه في منتصف التسعينيات، كنا قد طلبنا من صديقنا الدكتور حامد خليل، رحمه الله، عميد كلية الآداب في جامعة دمشق في حينها، إيجاد خبير لتنسيق وتبويب مكتبتنا الكبيرة، وعرفنا على أبو طارق، وكانت خدمة إيجابية للطرفين، فقد حل مشكلتنا، وأمن للرجل الفقير دخلا من عمل إضافي يقوم به بعد ظهر كل يوم، استغرقت مهمته بضعة سنوات لتنظيم آلاف مؤلفة مما نحشره من كتب في كل مكان نسكنه، وكان يقوم بعمله المنظم بإتقان وتهذيب فائق، بهدوء وصبر وصمت العارف، فإذا سألته عن أي موضوع فوجئت به ينساب بكم هائل من المعلومات والمراجع. كان موسوعة متنقلة ليس فقط بحكم اختصاصه، بل بحكم شغفه بالقراءة التي كانت أحيانا مثار خلافاتنا، فلطالما دخلت مكتبه أستعجله في أوراق طلبت تدقيقها لأفاجأ به غارقا في مطالعة كتاب أو صحيفة.

كانت نزهته المفضلة المكتبة الوطنية الكبيرة. يقضي بها الساعات الطويلة، يهاتفني أحيانا ليخبرني بسعادة أنه عثر على كتاب حول موضوع يهمني، يأتيني به فرحا. وكان مستعدا أن ينفذ دون تأفف أي مهمة يكلف بها بشرط ألا يعمل يوم الخميس الذي خصصه للقراءة فقط، يعتكف فيه بين كتبه.

كان يعتقد أن الحياة ستنصفه يوما بجزاء عمله وعلمه، لذا كان متفائلا مترقبا ذلك الفرج، ويستعد له بالمعرفة، فيقرأ دون كلل، ويكتب وينشر أبحاثه في المجلات العلمية، ويساعد بحماس الطلاب الذين يقصدونه أفواجا، ودفعات عديدة منهم تخرجت تحمل بصماته. ويعود إلى بيته آخر الليل مرهقا وراضيا، لأن أحلامه كانت كحياته متواضعة، بل ربما لم يجرؤ يوما على الحلم بسبب ظروفه الصعبة، وأعتقد أنه كان جديرا بأكثر مما ناله.

سبحان مقسم الأقدار، كان نصيب أبو طارق منها قاسيا على طول الطريق، بعكس ما توحي به ملامحه الهادئة، ورضا الإيمان الذي يواجه به ظروفه المحبطة، إيمان حقيقي لم يقتصر على سجادة الصلاة التي طالما لمحتها تحت إبطه.

لأبي طارق أطفال أربعة، أصغرهم في العاشرة، سماها "ميسان" تيمنا بابنتي الوحيدة، أما أكبرهم ففي السادسة عشرة، أسماه طارق ليكون فارسا مقداما على شاكلة طارق بن زياد الأصل الذي كان معجبا به. وكان ينتظر أن يكبر طارق، مقايضا الحاضر بوعود المستقبل، لكن طارقا هذا كان أيضا أحد الفصول المؤلمة في حياة أبيه.

فقبل بضع سنوات كانوا في دير الزور، حيث اعتاد أبو طارق أن يأخذ زوجته وأولاده بضعة أسابيع كل صيف، وحيث يتاح لأسرته لقاء الأهل والانطلاق في مساحات واسعة يعوضون بها عن ضيق حياتهم المحصورة بين الجدران المظلمة لبيت صغير في ريف دمشق، بناه الرجل الشريف لبنة فوق أخرى، ومازال يفتقر إلى الكثير من مقومات الحياة، وهي ضريبة الضمير في زمن أزمة الضمير.

وحين تكون الإجازة السنوية في صيف أكثر مناطق سورية قيظا، فطبيعي أن تكون السباحة في ماء جدول صغير من نهر الفرات لعبة الأطفال المفضلة, هناك وفي صباح مشؤوم كسرت رقبة طارق ابن الثالثة عشرة في قفزة إلى ماء أخطأ تقدير عمقه.

بعدها تغيرت حياة أبو طارق وعائلته إلى الأبد، بل وربما مات منذ ذلك الحين.

فقد طارق القدرة على تحريك أي جزء من جسده، وتفاقمت أعباء أبيه بتكاليف علاجه الباهظة، مداراة طفل حكم عليه أن يبقى طريح الفراش إلى الأبد، ومساعدة زوجة كسيرة القلب.

ورغم أن أبو طارق استمر على صمته وهدوئه وعبارة "الحمد لله"، لكني شعرت به قد انطفأ، فقد حماسه تجاه الأشياء، تغلب عليه اليأس، وصار يعمل كرجل آلي ليس فيه من أثر الحياة إلا عينان حزينتان.

ولم يكن رغم فقره يشتكي أو يطلب شيئا، اللهم إلا العسل اليمني أحيانا الذي قيل له إنه قد يسهم في ترميم الأعصاب المتهتكة لابنه المقعد.

بإرادة تثير الإعجاب استمر في تلقين العلم لابنه العاجز، وكم كان فخورا بأن الشاب الصغير الذي قدم الامتحانات ممددا على "نقالة" يملي الإجابات على من يكتبها نجح وبتفوق.

كان أبو طارق واحدا منا على مر السنين اعتدته واعتادني، بحكمته وأدبه كان يحتوي انفعالي حين أغضب لخطأ ما، ثم يحتل كرسيه أمام مكتبي في آخر النهار ليخبرني رأيه بصراحة المحب بعد أن أهدأ، وأشهد أني لم أسمع نبرة صوته أعلى، ولو بدرجة واحدة، طوال سبعة عشر عاما، ولا رأيت في وجهه إشارة ضيق، رغم أنني ربما استحققتها أحيانا، فما كان بيننا من مودة واحترام كان يتيح لكلينا أن يرى باطن الآخر الشفيف، ولذلك لم نختلف أبدا حتى السبت الأخير. والسبت هو يوم عمله الأسبوعي في مكتبي في حي المزة بدمشق، وهو يوم عطلته من عمله في الجامعة، كنت خارج سوريا، واتصلت هاتفيا بمكتبي أهنئه، وآمر بصرف مكافأة العيد له، لكنه للأسف كان قد غادر قبل عشر دقائق. اتصلوا به فورا فأجابهم أنه سيأتي بعد العيد لاستلام النقود، إذ خشي العودة، وقد تأخر الوقت كي لا يقتل برصاصة في هذا الظرف الأمني القلق، على حد تعبيره، يا لسخرية القدر "من لم يمت بالسيف مات بغيره".

تعددت الأسباب والموت واحد، والسبب هنا كان أن أبو طارق قد تعلم فك وتركيب الأشياء ليسد بها بعض حاجته إلى المال، وطالما احتفظت له بما لم أعد أحتاج إليه من أجهزة إلكترونية أو أدوات كهربائية يحاول إصلاحها ليستفيد منها أو من أجزائها، أو ليبيعها بدراهم قليلة.

هذه المعرفة التي فرضتها الحاجة وفرت عليه أجور أي حرفي قد يحتاج إليه البيت، تعود إصلاح أي عطل بنفسه، وهذه المهارة ذاتها هي التي قتلته حين حاول أبو طارق قبل أيام إصلاح سخان الماء في حمام منزله. بكيت طويلا حين أخبروني عن عذابه الأخير معلقا بالسلك الذي بقي يصعقه بالكهرباء إلى أن تفحم.

حزنت وحزن عليه كل من عرفه، أسرته وأصدقاؤه وآلاف من طلابه، رحم الله أبو طارق بواسع رحمته.

وفي محاولة غير ذات جدوى لتعزية نفسي تساءلت: ترى هل وضعت "صاعقة الرحمة" هذه حدا لعذابات حياة أبو طارق القاسية أم أن الحياة تبقى جديرة بأن نحياها كيفما كانت؟

ريم عبد الغني

حرم الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد

رئيسة مركز " تريم للعمارة والتراث "

[email protected]