البنت أم مريلة كحلي

بقلم: أريج عراق كان فجراً باسماً في مقلتيَ .. يوم أشرقت من الغيب عليَ كان بيت الشعر ذاك للشاعر الكبير أحمد رامي، هو أول ما جال بخاطري وأنا أساعد طفلتي الصغيرة على ارتداء ملابسها في أول أيام العام الدراسي، ومر شريط الذكريات أمام عينيّ سريعاً، وأنا أتذكر يوم ميلادها الجميل، وأول مرة أنظر في وجهها الصغير، الذي رأيته أجمل وجوه العالم، وأقبل أصابع يدها التي تقبض على إصبع واحد من يدي وكأنها تنشد الأمان في ذلك الإصبع. تذكرت ليالينا الطويلة معاً وهي ترفض النوم وأنا أحاول بكل جهدي أن أبقى مستيقظة من أجلها، وأظل أغني لأسعدها، بينما أنا في الحقيقة أفعل ذلك للحفاظ على وعيي، تذكرت أول كلماتها، أول خطواتها، أول ضحكاتها، أول سنّة صغيرة تظهر في فمها، تذكرت كل شيء وأنا أراها أمامي، ورغم سنوات عمرها التي لم تكن تتعد أصابع اليد الواحدة، شعرت أن طفلتي الصغيرة قد صارت شابة جميلة، وأن مشوار الألف ميل الذي قد بدأ للتوّ، أوشك على الانتهاء، وما العمر إلا لحظات ودقائق. أخذت أجمع أشياءها القليلة، بتوتر زائد، وأنا أتوقع أنني سوف أنسى أي شيء، أتمنى أن أضع كل الطعام الموجود في المنزل في علبة طعامها، لأنني لا أثق أنه سوف يكفيها، ماذا لو شعرت بالجوع؟ وماذا لو رغبت في قضاء حاجتها؟ من سيساعدها في هذا الحدث الجلل؟ وكيف ستبتعد عني كل هذه السويعات الطويلة التي تكاد تصل إلى أربع ساعات كاملة؟ ماذا ستفعل بدوني وهي أول مرة نفترق؟ هل ستبكي؟ هل ستكره المدرسة؟ هل ستناشدني ألا أرسلها إلى هناك مرة أخرى؟ هل هل هل .....؟ أسئلة لا نهائية تكاد تعصف برأسي، وانتابتني رغبة في البكاء لا أعرف سببها، ولكنني تماسكت. انطلقنا معاً هي ووالدها وأنا، وظللت أنظر إليها وأنا أسترجع أغنية محمد منير "يا بنت يا أم المريلة كحلي" التي كتب كلماتها الراحل الجميل صلاح جاهين، وانتابتني نوبة سعادة غامرة، أنني الآن أستطيع أن أغنيها لابنتي عن حق، خاصة وأنها كانت ترتدي مريلة كحلي بالفعل، لا أجد إجابات مناسبة لأسئلتها الكثيرة عن ماهية هذه المرسة؟ وما هو المفروض أن تفعل فيها؟ وكلما حاولت الإجابة، أجد نفسي أنطق بكلمات صعبة ربما حتى لا أعيها، ولكنها تبدو سعيدة وهي تشعر أنها مقبلة على مغامرة كبرى، وهذا كل ما أتمناه. وصلنا إلى هناك، الارتباك هو سيد الموقف، نسأل عن فصول الأطفال الصغار، هناك نبحث بين الأسماء عن مكانها في أي فصل، أتخيل أن ابنتي سوف تُصدم من ذلك الزحام غير المعتاد، أفاجأ بأنها انطلقت فوراً وأخذت تتعرف على زملائها الجدد وكأنها تأتي إلى هذا المكان منذ ولادتها، أحاول أن أبقى معها أطول وقت ممكن وأنا ألتقط لها الصور من كل الزوايا، يأتي موعد الرحيل فأقدم قدماً وأؤخر الثانية، وأنا أنتظر أن أسمع بكاءها في أي لحظة، التفت فأجدها تلوح لي بيدها في سعادة بالغة، ودون أدنى شعور بالتوتر أو القلق من غيابي، أشعر أن حياتها الخاصة قد بدأت منذ تلك اللحظة، وأنه من الآن فصاعداً لن أعرف كل ما يحدث لها، وأنها قد صار لها أسرارها وتفاصيلها البعيدة عني، ألملم بقايا مشاعري المتضاربة وأنسحب في هدوء أنا وزوجي، تاركين دورة الزمن تتخذ مسارها المعتاد دون أن تلتفت البنت أم المريلة الكحلى لأحد.