رؤية نقدية : نوارة الذي جعل من منة شلبي اشطر ممثلة في هوليوود الشرق

أتذكر أن أخر مرة شعرت فيها بسعادة كبيرة بعد رؤيتي لفيلم عربي كانت بعد مشاهدتي لفيلم " في شقة مصر الجديدة " لمحمد خان، لا أعرف من أين أبدأ الحديث عن رؤيتي لنوّارة ، هل أبدأ بالحديث عن هالة خليل، أم أبدأ بالكلام عن منة شلبي التي أصبحت كتلة من الاحترافية تمشي على الأرض، أم أبدأ بالحديث عن صانعة موسيقى الفيلم ليال وطفة، أنا في حالة إرتباك لكنها من أحلى حالات الارتباك تسببت فيها إنسانة مخرجة اسمها هالة خليل .. الله يسامحها .

نوّارة  كان أكثر من مجرد فبلم فهو يتخطى هذا الإسم ، هو صناعة الإنسانة هالة خليل قبل أن تكون المخرجة، في هذه التحفة الفنية أثبت هالة أنها من أهم صانعي السينما سواء كمؤلفة ومن أهم مخرجي الشرق فيما يتعلق بالتكنيك أو فيما يتعلق كمخرجة لديها رؤية تملك القدرة على تجسيدها على الشاشة .

نوارة

منة شلبي.. إحترافية تمشي على الأرض

يوما بعد يوم وعمل بعد عمل تثبت أنها ودون مبالغة وعلى مسئوليتي الشخصية، تثبت منة شلبي أنها الممثلة الأهم والأكثر إحترافية ليس في مصر فقط لكن في الشرق بأكمله، ليس من دور نوّارة  فحسب لكن هذا بدأ تحديدا من دورها في حارة اليهود لكننا الآن مع نوّارة  تعاولوا نحكي عن منة .

براعة منة شلبي بشكل عام تأتي من قدرتها الغير عادية على التمثيل بكل حواسها وكيانها وأنا أقصد هنا قدرتها على التمثيل سواء لغة الجسد " شاهدوا مشيتها وهي تحمل جراكين الماء "، أو استخدام الصوت واللغة ودققوا في لهجة ولكنة نوّارة  الغلبانة، أوفي استخدام العين وكل قطعة في وجهها في أكثر من مشهد خاصة مشهد نوّارة وهي تسأل الوزير السابق عن إمكانية عودة الأموال المنهوبة، حيث ضحكت ضحكة تحتمل 3 اجتمالات السعادة والسؤال والخوف "، كما أن منة تملك القدرة على تغيير طبقة صوتها في كل جملة بحيث يحدث تطابق بين الصوت والإحساس حتى في الانتقال من كلمة لاخرى، فإذا كان هناك مطربات يستطعن أن يلعبن بطبقة صوتهن في كوبليه واحد مثل أصالة فمنة شلبي قد تكون هي الوحيدة أو من القليللات التي لديها هذه القدرة .

شخصية نوّارة  تم رسمها بعناية سواء في الشكل "بنطلون جينز بسيط وبلوزة قديمة تحت العباءة، أظافر مطلية بمانيكير رخيص حتى المانيكير غير كامل، مع إرهاق واضح على ملامحها "، أما من ناحية المضمون فهذه الشخصية هي التي تدافع عنها هالة خليل وتكن لها كل الإحترام، نوّارة  فقيرة، لكنها شخص يعطي الكثير ممن حوله،لا يقبل المال الحرام مهما كانت الظروف، شخص عفيف لا يحقد ولا يحسد بل يحافظ على أمانة الأغنياء التي وضوعوها في يده وهي فيلتهم "..

عبرت هالة خليل عن هذه الشخصية في مشهدين، الأول أنها رفضت أن يقوم زوجها بشراء تلفزيون مسروق من أحد البلطجية لأنها لا ترضى بالحرام .

منة شلبي

هالة خليل.. أكثر من مجرد مخرجة

  • ظهرت براعة هالة من الكادر الأول فكان بطلها الذي تناضل من أجله هو الانسان البسيط المتمثل في نوّارة الذي لعبته " منة شلبي " التي ظهرت وهي تحمل " جركانين من الماء " وهو أبسط حقوق الإنسان لكنه كان همها وهم أمها اليومي .
  • هالة خليل لعبت بالرموز بشكل هو أروع ما يكون، فنجدها كانت مباشرة وغير مباشرة لكنها بسيطة في نفس الوقت، ونلاحظ ذلك من الجدران المكتوب عليها عبارت سياسية مثل " يسقط حسني مبارك"، " إرحل "، " الشعب يريد إسقاط النظام" ، " المجد للشهداء " وهي العبارة التي تكررت أكثر من مرة ومعها صورة لأحد الشهداء .

 

  • المخرجون الكبار هم من يهتمون بأدق التفاصيل وأظن أن ذلك دفع هالة خليل للتصوير في شوارع حقيقية وليست ديكوارات مبنية، حيث كانت الأحياء الفقيرة هي أحياء حقيقية، وأظن أن الشقق التي تم التصوير فيها كانت أيضا حقيقية سواء شقق الفقراء أو فلل الأغنياء .

هالة خليل وشيرين رضا

  • المخرج الحقيقي هو من يستطيع أن يلعب بالمونتاج كما يشاء وهو ما فعلته هالة ببراعة شديدة، في أحد المشاهد خلع محمو د حميدة " الوزي السابق " الفاسد " خلع ملابسه وقفز في حمام سباحة الفيلا التي يسكن فيها، لتنتقل هالة في المشهد التالي إلي الخادمة نوّارة وهي تغسل رأسها في حمام من خلال " جردل وطشت" وهي مقرفصة وهوحمام مشترك فلم تكمل حتى غسيل شعرها.. أظن أن هذين المشهدين لخصا نصف ما تريد أن تقولههالة بدون جملة واحدة مكتوبة .

 

  • قدرة هالة القوية على إظهار الوجع الإنساني الذي قد يكون وجعها هي،هذه القدرة ظهرت في المشاهد الأولى من الفيلم في المستشفى الحكومي، حيث أظهرت المعاناة التي يلاقيها الفقير في مصر في كل شيء خاصة فيما يتعلق بالمرض وكان مشهد وضع حمى نوّارة " العجوز الفقير" في حمام المستشفى بسبب عدم وجود سرير فارغ لوضعه فيه كان مشهد وكأنه رمز كيف تتعامل الحكومة مع مواطنها البسيط المريض وأين تضعه، حتى السرير المنتظر فهو سيكون مجرد محطة ينتظر فيها الموت مثله مثل المريض سابقه .

 

  • لم يكن هناك تفصيلة متروكة للصدفة، إختيار زوج نوّارة "علي" الذي لعبه أمير صلاح الدين وأن يكون من أهل النوبة، الشاب الفقير المتزوج مع إيقاف التنفيذ لأنه لا يستطيع أن يجد شقة، و لا يستيطع أن يعالج أبوه فهو فقير وقليل الحيلة للدرجة التي دفعته لان يصف نفسه بأنه مش راجل، وهنا أشارت هالة لبعض الفئات في مصر التي تعاني مثلها مثل الأخرين سواء كان هولاء هم أهل النوبة وممكن أن نضع في هذه السلة أيضا الأقباط أو السيناويين وغيرهم .

من العرض الخاص لفيلم نوارة

  • أكثر من جملة كانت مقصودة بشدة في الفيلم وأظن أن هالة حاولت من خلال تلك لجمل ايصال رسالتها، منها الجملة التي قالها الوزير السابق أسامة لخادمته نوّارة التي سألته هل من الممكن أن تعود الأموال المنهوبة أو أن يتغير الوضع في مصر لتكون هناك عدالة فرد عليها بجملة أظن أنها هي الأهم في الفيلم " لو الثورة قامت فالقيامة مقامتش.. المقامات هتفضل محفوظة ".

 

  • جملة أخرى قالتها هالة خليل بنفسها في أحد المظاهرات وأظن أن هالة أرادت أن تنطق هذه الكلمات بنفسها، حيث وقفت هالة وبجانها محمد العدل في مظاهرة عطلت الطريق، ونزلت إليهما نوّارة من الميكروباص تترجاهم أن يفسحوا الطريق لأنها متأخرة عن أكل عيشها، فردت عليها هالة بالقول " إحنا بنعمل كدة علشان تأكلوا عيش "، وقام العدل بإفساح الطريق، وأظن أن هالة تدافع عن موقفها السياسي أو تنقل رؤيتها للوضع السياسي أو أنها أرادت تدافع عن من يقومون بالمظاهرات دفاعا عن معتقداتهم وأنهم يقومون بذلك لأجل الأخرين أيضا.

 

  • وفيما يتعلق بموضوع الرموز كانت هالة في منتهى الذكاء حيث عبرت عن المواطنين المصريين من خلال " الكتاكيت " التي تربيهم والدة نوّارة في غرفتها، وأشارت اليه نوّارة بالقولأكثر من مرة بأنه ضعيف وهفتان ، وهذا حال المواطن المصري البسيط الغلبان .

 

  • وكذلك كان استخدام الكلب الذي يحرس فيلا الوزير السابق وجعله يقاوم نوّارة في كل مرة يراها على الرغم من أنها ليست بغريبة عن المنزل، وكأن هالة ترمز من خلال الكلب للبلطجية أو مواطنين أخرين جشعين هم غلابة وفقراء أيضا فهمخدم في النهاية لكن بشكل مختلف، لكنهم لا يقومون سوى بمهاجمة الغلابة أمثالهم ، لكن هالة في النهاية أيضا انتصرت لهذا المواطن البلطجي أو الشرير حيث دافع عن نوّارة في النهاية لأن هالة قد ترى أن سلوك هذا المواطن أصبح هكذا بسبب الوضع السيء الذي.

 

  • زوج نوّارة أو علي " أمير صلاح الدين"،رجاء حسين " أم نوّارة "، وشاهندة زوجة الوزير السابق " شيرن رضا "والوزير السابق " محمود حميدة "، وعم عبد الله " احمد راتب "، الممرضة " مؤمنة " " شيماء "، لعبوا أدوارهم بأروع ما يكون .

شيرين رضا من العرض الخاص للفيلم

موسيقى على مستوى الفيلم

  • موسيقى الفيلم كانت من أروع ما يكون، لم تكن هناك موسيقى في مشاهد كثيرة لكن سمعناها في مشاهد معدودة ولكن الأهم أنها وضعت بدقة في مشاهد بعينها، كان أروع المشاهد التي تم استخدم الموسيقى فيها مشهد الحوار بين نوّارة والوزير الساب حول إمكانية عودة الأموا ل المنهوبة وكأن الموسيقى كانتتبكي لأن فرحة نوّارة لن تتم، وكذلككان مشهد فرحة نوّارة بمبلغ الـ 20 ألف جنيه هدية من زوجة الوزير عبرت عنه الموسيقى وكأن نوّارة امتلكت الدنيا ما فيها.. موسيقى الفيلم لـ ليال وطفة كانت من أروع عناصره. أنصحكم أن تستمعوا للموسيقى في تتر النهاية وألا تغادروا الصالة فور النهاية .

ليال وطفة وهالة خليل

  • لأن أتحدث عن نهاية الفيلم بشكل تفصيلي لكنها كانت ذكية جدا وواقعية جدا وكانت كلمات البطلة وكأنها تعبر عن غضب مكتوم في صدر هالة خليل.

 

  • عظمة نوّارة تأتي من أنه يتخطى حدود المحلية فهو يحمل هم الفقير والغلبان في كل مكان على سطح الأرض فتصبح رسالة الفيلم عالمية وإنسانية وهذا أروع ما فيه .

 

  • الجملة الأخيرة.. المخرجون العظماء هم الذين يحملون دائما في مشروعاتهم أفكارا إنسانية تتعلق باللحم والدم، على سبيل المثال كريستوفر نولان من هذه المدرسة وكذلك محمد خان و بكل تأكيد هالة خليل التي تؤكد هذا فيلما بعد فيلم، فمنذ رؤيتي لأفلامها بداية من فيلم أحلى الأوقات مرورا بـقص ولزق وانتهاء بنوّارة يمكن أن أصف هالة بأنها مخرجة " جوّانية قوي " أى لديها القدرة على تجسيد ما يشعر به الكثيرون وإخراجه على الشاشة، ومثلما قلت أن أحلى ما في هالة خليل ليست أنها مخرجة فقط لكنها تستخدم كادراتها لتقول " أنا إنسانة تجسدني مخرجة ".