عن الأسطورة اللؤلؤية .. Coco Chanel

يكفي اسمها لتحضر إلى الذهن فوراً صورة كلاسيكية رائعة، لواحدة من أهم أساطير القرن العشرين، أما أهم ما يميز تلك الأسطورة الحديثة، فهي تلك النظرة الواثقة التي تشع بالحيوية، وحبات اللؤلؤ التي تزين جيدها دوماً، إنها بالفعل أسطورة لؤلؤية رائعة، أضاءت سماء القرن المزدحم برقتها وأناقتها، يكفي أن تعرف أن مفهوم الأناقة ما قبل Coco Chanel، يختلف تماماً عنه بعدها، وأن جملتها الخالدة: "أنا لا أصنع الموضة .. أنا الموضة"، حقيقية تماماً، وتعبر بوضوح عن قيمتها ووضعها، الذي سجلته مجلة Time الأمريكية، باختيارها السيدة الوحيدة من بين مائة شخصية أثرت في هذا القرن بأكمله.
 
وُلدت Gabrielle Bonheur Chanel في التاسع عشر من أغسطس 1883، وعاشت حياة درامية صعبة، تصلح كمادة جيدة للأعمال الأدبية والفنية، فأمها Eugénie Jeanne Devolle عاملة المغسلة، أنجبتها هي وأختها الأكبر من البائع المتجول Albert Chanel، بلا أسس لحياة أسرية واضحة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وسرعان ما زاد الأبناء لخمسة، يقيمون جميعاً في غرفة واحدة متواضعة في مدينة Brive-la-Gaillarde.
 
في سن الثانية عشرة، ماتت أم Gabrielle (Coco) متأثرة بمرض التهاب الشعب الهوائية، ولم يكن عمرها قد تجاوز الحادية والثلاثين، واضطر الأب لإرسال أبنائه الذكور للعمل كمزارعين، وإرسال بناته الثلاث لدير Aubazine بمدينة Corrèze بوسط فرنسا، وهناك عانت Gabrielle من الحياة الصارمة والمتقشفة للدير، وفي سن الثامنة عشر، غادرت بلا رجعة إلى مدينة Moulins.
 
بدأت Chanel حياتها المهنية كمغنية في الملاهي الليلية، وهناك أصبح لها جمهور كبير، وبدأت في جمع المال، وتحسين أوضاعها، وهناك أيضاً اكتسبت اسم شهرتها الذي لازمها طوال حياتها Coco، ويرجح أن الاسم يعود إلى أغنيتين اشتهرت بهما في تلك الفترة هما: " Ko Ko Ri Ko" و " Qui qu'a vu Coco"، إلا أن الحياة لم تستمر على ابتسامتها طويلاً، فكان لانتقالها لمنتجع Vichy أثره السيء عليها، حيث لم تجد نفس الجماهيرية، واضطرت للبحث عن عمل آخر لكسب قوتها، ولم يكن أمامها إلا استلهام تاريخها، والعمل في مغسلة (ابنة أمها)، ومنها إلى أعمال أخرى متواضعة، حتى عادت مرة أخرى إلى Moulins، وهناك بدأت علاقاتها مع أثرياء الطبقة الراقية من الفرنسيين والإنجليز، الذين ساندوها عندما قررت تغيير مسار حياتها المهنية، واستعادت ما تعلمته في الدير من فن الخياطة، وصممت أول قبعة لها عام 1912، وافتتحت أول محلاتها عام 1918، وكان ممولها الرئيسي Captain Arthur Edward 'Boy' Capel، والذي لم يلبث أن قضى في حادث سيارة عام 1919، وهو ما مثل صدمة عنيفة لها، وجعلها تعتقد أن الحياة تدير لها ظهرها مرة أخرى، وكما قالت بعد ذلك، فإنها لم تعرف معنى السعادة والأمان أبداً بعد رحيل Capel.
 
بدأت Chanel في توسيع إنتاجها بعد ذلك، وانتقلت من القبعات إلى السترات الصوفية وما شابهها، وبعد متجرها في 21 rue Cambon، استطاعت أن تفتح فرعاً آخر في Deauville، وعانت كثيراً في البداية في ترويج بضاعتها، رغم مساعدات شقيقتيها وبعض قريباتها، إلا أن الحياة ما لبثت أن أعادت وجهها المضيء، وبدأت أعمال Chanel في الازدهار، واستطاعت أن تسجل نفسها كصانعة للموضة الراقية Couturiere، وانتقلت إلى عنوانها الشهير –الذي ما زال موجوداً حتى الآن كمركز رئيسي- 31 rue Cambon.
 
في عام 1921، كانت أحوال Chanel قد تغيرت تماماً، وأصبحت تمتلك المبنى الموجود به متجرها بأكمله، وافتتحت ما يمكن اعتباره وقتها "بوتيك" للأزياء، وهو حدث كبير في ذلك الوقت، وما لبثت أن توسعت بتقديم العطور والمجوهرات إلى جانب الأزياء والقبعات، ومع حلول عام 1927 أصبحت Chanel تمتلك مجموعة من المباني في نفس الشارع من رقم 23 إلى 31، وهي منطقة راقية في وسط باريس، كفلت لها اهتمام زبائن الطبقات الراقية.
 
في نفس الفترة تعرفت Chanel على السيدة Vera Bate Lombardi (اسمها الأصلي Sarah Gertrude Arkwright) والتي يمكن اعتبارها مبعوث الأرستقراطية الإنجليزية العريقة، والتي فتحت لها أبواب هذا العالم الكبير، وأدخلتها فيه بكل ثقة، وأصبحت من المصممين المفضلين للعائلة الملكية وغيرها من أبناء هذه الطبقة، ويقال أنها ارتبطت بعلاقة عاطفية بدوق وستمنستر، لكنها رفضت الزواج منه، وعندما سُئلت في ذلك الأمر، قالت: "سوف يكون هناك دائماً أكثر من دوق لوستمنستر، ولكن لن تكون هناك إلا شانيل واحدة فقط".
 
إلا أن هذا لا ينفي أنها استفادت على كل المستويات بهذه العلاقات وهذا المستوى من التعامل، كما أن الدوق أغدق عليها العطايا من المجوهرات الثمينة وغيرها، كما بنى لها قصراً شهيراً في Roquebrune-Cap-Martin على شاطئ الريفييرا الفرنسية.
 
مع حلول عام 1931، اقتحمت Chanel عالماً آخراً شديد البريق، هو عالم السينما الهوليوودية، وتم اختيارها لتصميم الأزياء هناك مقابل مبلغ خرافي في ذلك الوقت (مليون دولار أمريكي، ما يعادل 75 مليون دولار بالمقاييس الحالية)، وتحولت كل من Greta Garbo و Marlene Dietrich إلى عملاء خاصين لديها، إلا أن التجربة لم تكن جيدة بالنسبة لها، واعتبرت أن هوليوود هي مدينة الذوق السيء والثقافة المبتذلة، واعتبروا هم أن أزيائها لم تكن مثيرة بما فيه الكفاية! فتحولت إلى السينما الفرنسية، ومنحتها اهتمامها.
 
مرت على Chanel سنوات عديدة من اللغط بعد ذلك، خاصة فترة الحرب العالمية الثانية، وما قيل عن تعاونها مع الألمان، فآثرت الابتعاد عن الساحة قليلاً، وانتقلت للعيش في سويسرا، ومع انتهاء الحرب، بدأ يظهر في الأفق مجموعة من المنافسين الأشداء مثل Christian Dior, Cristóbal Balenciaga, Robert Piguet, Jacques Fath والغريب أنهم كانوا جميعاً من الذكور، وهو ما لم تتقبله Chanel أو تفهمه، فهي تعتقد أن الرجال ليس بمقدورهم تفهم طلبات واحتياجات المرأة، مثلما تفعل هي، إلا أن الحقيقة أن هذه الأسماء استطاعت أن تثبت نفسها وتلقى ترحيباً كبيراً من الجمهور، وعندما عادت Chanel إلى العمل عام 1956، لم يستقبلها الفرنسيون بقبول حسن، اعتماداً على مواقفها السياسية، ولكنهم احترموا عودتها بتحفظ، بينما ظل عملاؤها من الإنجليز والأمريكيين على إخلاصهم وولائهم الشديد لها.
 
في صباح يوم الأحد 10 يناير 1971، ذهبت Chanel إلى فراشها لتستريح وقد شعرت بوعكة صحية من الليلة السابقة، فكانت آخر أنفاسها على سريرها بفندق Ritz الذي كانت تفضله عن سواه، وكان عمرها في ذلك الوقت 87 عاماً، قضت منهم السنوات الأخيرة في وحدة كبيرة، لم تعرفها جنازتها التي امتلأت بالحضور من كل أنحاء العالم، وخاصة عارضات الأزياء اللاتي بكينها طويلاً.
 
رحلت Coco Chanel وقد تركت تراثاً جباراً رائداً في مجال الأناقة الراقية، ومن يمكنه أن ينسى الفستان الأسود القصير، وتايير شانيل، وقماش الجيرسي، وعطر Chanel No. 5 الخالد وغيرها من ابتكاراتها التي لا يمكن أن ينساها العالم، أو تتخلى عنها النساء حتى الآن.