في ميلانو.."هي" تدخل عالم «جامبييرو بودينو» الساحر

في قلب ميلانو، وفي فيلا "موزارت" الأنيقة، وبين لوحات رسمها بريشته وتحف فنية جمعها عبر السنوات، تعرفنا إلى "جامبييرو بودينو" Giampiero Bodino صاحب دار المجوهرات الراقية التي أطلقتها مجموعة "ريشمون" Richemont تحت رايتها. 
 
دخلنا إلى استوديو "جامبييرو" المليء بدفاتر الرسم. فهو يدون كل أفكاره، ويرسم كل تصميم على أحد الدفاتر. تنفد الأوراق فيتناول دفترا آخر. في طي تلك الصفحات، رسومات ومدونات تروي مسيرة فنية طويلة. وخلال اللقاء، سنحت لي الفرصة بتصفح بعضها، فذهلت، فبين مدونة وأخرى لمحت رسوم ساعات ومجوهرات صممها "بودينو" لأشهر الدور. وعلى الرغم من أننا لم نكن نعرف اسمه، لكننا جميعا بالتأكيد نعرف عمله، فهو يصمم لدور مجموعة "ريشمون" Richemont منذ ثلاثين عاما. فإذا كنت تعرفين "كارتييه" أو"بياجيه" أو"بانيراي" أو"جيجير لوكولتر" أو "رالف لورين" أو غيرها من دور "ريشمون"، فإنك دون شك تعرفين تصاميم "جامبييرو بودينو". 
 
منظور "بودينو" في ما يقدمه من المجوهرات الراقية في داره، يلح على الفرادة والابتكار ولا يحيد عنهما. فرادة الابتكار والتصميم الفريد لامرأة تبحث عن تعبير جديد من خلال مجوهراتها. يهتم بالعلاقة الخاصة بينه وبين الزبونة التي تلعب دورا مهما في ما يصممه لها بناء على شخصيتها ورغبتها. أما مجوهراته، فهي مصوغة على أيدي أمهر الحرفيين لتعبر عن رؤياه الفنية المستوحاة من الفنون ومن تاريخ إيطاليا الفني الثري العريق. 
 
مجوهرات "بودينو" لا تجدها في أي بوتيك أو محل، بل على من يطلبها أن يتوجه إلى فيلا "موزارت" في ميلانو، بعد أن يأخذ موعدا مسبقا ليدخل عالم "بودينو". الفيلا التي صممها المهندس "بييرو بولتالوبي" الشهير في الثلاثينيات، والتي أعادها "بودينو" إلى مجدها، وملأ مكتبتها بكتب عن الفن والمجوهرات والهندسة والحدائق، تعبر عن رؤية وشخصية هذا المصمم الفنان العصرية والمبتكرة للفن. 
 
يقول "بودينو": "إننا دار فريدة من نوعها، فنحن نمثل قيمة معينة، ونوعية الصياغة التي نقدمها هي الأفضل، وأسلوبنا خاص، وهو الأسلوب الإيطالي الملح على تاريخ المجوهرات الإيطالية. وما ننتجه ليس نتيجة استراتيجية تسويقية". 
 
ويتحدث "بودينو" عن مصادر وحيه فيقول: "أستوحي تصاميمي من كل شيء في إيطاليا، من الحياة والتاريخ والهندسة وحتى أدق التفاصيل. وعالم الفنون التزينية في إيطاليا ثري جدا، وبه عناصر لا متناهية أستوحي منها. تقليد صناعة المجوهرات في إيطاليا عريق، وأنا فخور بأن أغطس فيه وأترجمه بأسلوبي الخاص".
 
مسيرة فنية ثرية
ولد "جامبييرو بودينو" في تورينو، وعمل في بداية تاريخه المهني مع "جورجيتو جوجارو" الذي يعد أشهر مصممي السيارات في العالم، والذي نال لقب "مصمم القرن". ثم انتقل للعمل في تصميم المجوهرات مع "جياني بولغاري" في عام 1981، ومن ثم انتقل للعمل مع مجموعة "ريشمون" في عام 1989، وارتقى فيها إلى منصب المدير الفني العام للمجموعة في عام 2002. خلال سني عمله مع المجموعة أشرف على ولادة ساعات "بانيراي" من جديد، وصمم ساعات ومجوهرات لمعظم دور مجموعة "ريشمون"، منها "كارتييه" و"فان كليف آند أربلز" و"بياجيه". لكنه تردد في إطلاق دار مجوهرات تحمل اسمه على الرغم من إصرار رئيس مجلس إدارة مجموعة "ريشمون"، إلى أن وضعه الأخير تحت الأمر الواقع عندما أعلن خلال أحد الاجتماعات عن إطلاق دار "جامبيرو بودينو". 
 
 
هكذا ولدت الدار
عندما سألناه عن تجربته ومسيرته الفنية التي شملت تصميم السيارات والساعات والمجوهرات والإكسسوارات والأثاثات والرسم، قال: "أحب أن أصمم في مختلف الحقول، فأنا أحتاج إلى التغيير، وأكره أن أغرق في الرتابة". وعندما سألناه إن كان من السهل عليه التحول بين أنواع التصميم المختلفة أجاب: "نعم التغيير سهل بالنسبة لي، كمصمم وراء الكواليس لم يكن هدفي أن أفرض ذوقي، بل كان عليّ أن أفهم تاريخ الدار وهوية الشركة التي أعمل معها، ثم أن أقدم لها تصاميم تناسبها". 
 
من اللافت أن "بودينو" لم يصدر تصاميم تحمل اسمه خلال سني عمله الطويلة، إلا مرتين. الأولى كانت بمجموعة ساعات مجوهرات راقية صممها لدار "جيجير لو كلولتر" قدمتها خلال مهرجان البندقية للسينما. وكانت المرة الثانية مع "مونت بلان" وقلم "ستار ووكر" وساعة "تايم ووكر". 
 
سألناه لماذا قرر الآن اتخاذ خطوة افتتاح دار تحمل اسمه، فأجاب: إن ذلك يعود إلى سنين ماضية ولقاء مع يوهان روبرت رئيس مجلس إدارة مجموعة "ريشمون"، حيث رأى أحد تصاميم العقود في دفتري، وطلب مني أن أصوغه لزوجته. ومنذ ذلك الوقت راح يحثني على أن تكون لي دار مجوهرات تحمل اسمي. وكنت دائما أرفض، أو أقول له إنني سأفعل ذلك لاحقا. شعرت بأنه بدأ ينزعج من تكرار رفضي لمقترحه هذا. وفي أحد الاجتماعات الكبرى لرؤساء دور المجموعة أعلن "يوهان" أن "ريشمون" ستطلق دارا جديدة تحت راية المجموعة تحمل اسم "مجوهرات جامبيرو بودينو". وعندما وضعني أمام الأمر الواقع لم أستطع أن أرفض. وهكذا ولدت الدار في عام 2013. 
 
عندما وصفته بأنه كالجندي المجهول، لأنه المسؤول عن تصاميم أيقونية نعرفها لكننا نجهل أنه الفنان وراء تلك الساعة أو قطعة المجوهرات، ابتسم قائلا: كثيرا ما أرى أشخاصا يلبسون تصاميمي، لكن لا يعرفني أحد. وهذا يتناسب مع وجهة نظري للمجوهرات وشخصيتي، فلا تهمني السطحيات، وأفضل أن أتعرف إلى الناس، وأتعرف إلى أذواقهم، وأغني معرفتي بالتجارب. هنالك الكثير من الماركات التي تنتج الأشياء الجميلة لكن بصخب. وهذا هو أحد الأسباب وراء اختياري فيلا موزارت موقعا لعملي. فقد قررت أن المجوهرات التي تحمل اسمي ستكون مثلي. والفيلا هذه مثال على نظرتي إلى تصميم المجوهرات الراقية اليوم. ومع كل احترامي للدور التي لديها محلات، عندما أفكر في نفسي كصائغ، لا أرى نفسي في محل، مهما كان أنيقا وراقيا. وبرأيي عندما تشترين شيئا مهما، مثل المجوهرات الراقية، أو أي شيء آخر، يجب أن يرتبط ما تشترينه بالمكان الذي كنت فيه، فيصبح المكان جزءا من هذا الشيء، أي ذكرى. والذكرى أمر مهم في حياتنا. إنني أعيش للمستقبل الذي يبنى على الذكريات. 
 
فعندما يزورنا زائر أسعى لأن أهديه ذكرى لحظة جميلة، أو هذا ما أصبو إليه. 
 
ولمن يريد شيئا على ذوقه الخاص، أجلس معه، فإما أن يختار من بين القطع الفريدة التي صممتها، أو أحدثه عما يريده لأصمم له قطعة تماشي ذوقه. 
 
هذه هي المجوهرات الراقية في رأيي. ولا أرى نفسي صاحب 38 محلا حول العالم. قد أجد مقرا آخر يشابه هذه الفيلا، لأنني سأنزل فيها. يجب أن يشبه المكان شخصيتي. فمن يأتي إلى فيلا موزارت يراني ويرى شخصيتي فيها، ففيها أصمم. مستقبلا قد أسافر لأزور زبائني، لكن من يزور الفيلا يستفيد من التجربة الكلية، وقد نفتح الدرج لاختيار الأحجار، أو قد يطلب الزبون حجرا معينا نستطيع أن نجده له، فالسفر مع تلك الأحجار صعب جدا.
 
متدرب طوال عمري
زبونة "بودينو" تستطيع أن تطلب منه تصميم قطعة خاصة بها، أو أن تنتقي من بين القطع الفريدة التي يصممها تحت عنوان "كابي دوبيرا" Capi D’Opera، وهي مقسمة إلى تسعة مصادر إلهام. يضيف إليها، ولكنه لن يغير اسمها الأساسي.
 
هذا الاسم الشاعري يعود بنا إلى عهد فناني النهضة، حيث كان يتدرب الفنان عند أحد أهم الفنانين لسنوات عدة، ثم عند تخرجه يقدم عملا فنيا يسمى "كابو دوبيرا" أي التحفة الفنية التي تعلن تخرجه. سألناه هل هو مع تسمية مصوغاته "كابي دوبيرا"، فأجاب أن كل سني عمله التي زادت عن أربعين عاما كانت نوعا من التدريب، وأنه كان متدرجا، وأن ما يصوغه لداره الآن هي "تحفه" وأعمال تخرجه، وأضاف مبتسما: "لا أحب في الناس التواضع الزائف. نعم إنني أرى أنني دائما وأبدا سأبقى متدربا في الفن أتعلم الجديد كل يوم في حياتي. فاليوم الذي يركن فيه الشخص إلى نجاحاته، هو اليوم الذي ينتهي فيه، مع كل عام مع كل مجموعة أتخرج، ولن تنتهي فترة تدريبي"<  
 
الجاذبية والأنوثة وعنصر الحركة والراحة هي عوامل مهمة في تصميم مجوهرات "بودينو". لا تعطي الصور القطع حقها، فسحرها يكمن في لمسها وتجربتها ورؤيتها. خلفية كل قطعة جميلة مثل واجهتها. والبكلة جميلة، فإذا رفعت المرأة شعرها ظهرت البكلة تكملة للعقد. إحدى فوائد عمله في تصميم السيارات تظهر في ثلاثية الأبعاد في تصاميمه. 
 
"بودينو" لم يتوقف يوما عن الرسم، ولوحاته تزين جدران فيلا موزرات". ويقول عن الرسم: إنه جزء مهم مني، أحضر لمعرض للوحاتي في 16 أكتوبر في ميلانو. ألتقط صورة تعني شيئا لي، ثم أفسرها في لوحة زيتية كبيرة.