أنا هويت يا شيخ سيد... وأنت بقيت

عرق الغلابة وضحكات الفلاحين في الفجر، وهمهمات العمال في عز الشمس، تصنع لوحة أو تنسج رواية، ولكنها تحولت لأعذب الألحان مع شيخ مشايخ الموسيقى العربية وصانع مجدها الأول سيد درويش الذى عرف طريقه للنور فى مثل هذا اليوم من العام 1892، وقضى نحبه وهو فى ريعان الشباب، تاركا المئات من ألحانه وأغانيه التى أعادت الصوت لحناجر شعوب ظلت خرساء لعقود.
 
لا يعلم الكثيرون أن الغناء العربي كان حكرا على القصر الخديوي فقط، وكان يحظر على أي مطرب إنشاء تخت شرقى خارج الحضرة الخديوية، وحتى عندما تمرد الموسيقار الكبير عبده الحامولى على هذه الأوامر برفقة معشوقته الست ألمظ، لم تكن التجربة صالحة للتكرار، الا مع مولد الموسيقار سيد درويش، الذى تمرد على كل القوانين وصنع الموسيقى من أغنيات العمال وترنيمات دور العبادة، وأهازيج الفلاحات، على وقع الموسيقى الأوبرالية الإيطالية التى تعلمها مبكرا، ليضع حجر الأساس الأول لما بات يعرف الآن بالموسيقى العربية.
 
ولد السيد درويش البحر فى حي كوم الدكة بالإسكندرية عام 1892 في السابع عشر من مارس، لأسرة فقيرة، وحفظ القرآن وتعلم أصول المقامات الموسيقية، وفي نفس الوقت كان يتردد على دكان لرجل غيطالى يصنع الآلات الموسيقية وبين يديه تعلم قراءة وكتابة النوتة، واصول التلحين الأوبرالي، ولكن زواجه مبكرا وهو فى السادسة عشرة من عمره أجبره وقتها على العمل فى صنعة البناء ليكفى عائلته قوت يومها، وهناك تعلم أغانى العمال والتفت لقيمتها، وانتبه بعدها للغناء الشعبى ونداء الباعة الجائلين، وقرر برفقة الشاعر البائس عبد الحميد الديب، تقديم أغنيات "مصرية" تحمل هوية الشعب وتتحدث باسمه،  ولحن أول أدواره يا فؤادي ليه بتعشق،و في عام 1917 انتقل سيد درويش إلى القاهرة، ومنذ ذلك سطع نجمه وصار إنتاجه غزيرا، فقام بالتلحين لكافة الفرق المسرحية في عماد الدين أمثال فرقة نجيب الريحاني، جورج أبيض وعلي الكسار، حتى قامت ثورة 1919 فغنى قوم يا مصري.. بلغ إنتاجه في حياته القصيرة من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار وأربعين موشحا ومائة طقطوقة و 30 رواية مسرحية وأوبريت.
 
أنا هويت .. والست دي قامت تعجن فى الفجرية، وأوبريتات العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد والبروكة، كلها أعمال فنية تحتفظ بها ذاكرة الغناء العربى بعدما امتد اثرها فى العشرات من مدارس التلحين كالرحبانية وأعمال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وروائع المجدد محمد فوزى، وإبداعات بليغ حمدي، وحتى موسيقى سيد مكاوى والشيخ أمام..
 
توفي الشيخ سيد درويش في 10 سبتمبر 1923 لأسباب لا زالت غامضة، ولكن رداسات جديدة أكدت أنه لم يكن مدمنا كما أشاع البعض، والأغلب أنه قتل على يد قوات الاحتلال وقتها بعدما ساهمت أغانيه في نجاح ثورة 19 وزيادة شعور الشعب المصري بهويته.
 
اليوم أنا كمثل كل عشاق الموسيقى هويت.. وأنت ككل العظماء بقيت يا شيخ سيد.