أمهات الجيل الثاني في السينما المصرية أكثر عصرية وهموماً

إعداد: أريج عراق
 
لم تبخل السينما المصرية يوماً على الأم بمنحها ما تستحقه من تقدير وإجلال، فقدمتها بكل الأشكال والصور حتى الكوميدية بل والسلبية أيضاً، وبقيت الفنانات القديرات اللاتي قدمن هذا الدور، رموزاً حية في أذهان وقلوب كل من شاهدون، فلا أحد يمكنه أن ينسى أمينة رزق أشهر أم مصرية على الإطلاق، ولا فردوس محمد أكثر نماذج الأمومة حناناً، ولا كريمة مختار أكثرهن خفة دم، إلا أن هؤلاء السيدات الفضليات قدمن الصورة النمطية للأم باعتبارهن الرعيل الأول في السينما المصرية، فكن طيبات حانيات قليلات الحيلة، مكبلات دوماً بظروف اقتصادية واجتماعية لا يملكن حيالها أمراً، ولكن مع التغيرات الاجتماعية التي طرأت على مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، انعكس هذا فوراً على صورة الأم، فأصبحت أكثر عصرية وأناقة ووعياً، تحارب من أجل أبنائها كل الظروف المحيطة بها، قد تنجح وقد تخفق، لكنها لا تتوقف عن المحاولة، وبدت همومها أكثر عمقاً تناسباً مع متطلبات العصر، ولم تقصر نجمات الصف الأول في التصدي لهذا الدور، رغم أنهن كن يعتبرنه من المحذورات التي تؤثر على نجوميتهن، فرأينا فاتن حمامة وشادية وتحية كاريوكا وغيرهن ممن قدمن النموذج الحديث للأم المصرية.
 
فاتن حمامة
سيدة الشاشة العربية ونجمة كل العقود، أول من انتبهت لأهمية هذا الدور فقدمته في ريعان شبابها مع ابنتها الصغيرة نادية ذو الفقارفي فيلم "موعد مع السعادة" 1954 إخراج عز الدين ذو الفقار، ثم عادت وقدمته في الملحمة الخالدة "نهر الحب" 1960 للمخرج نفسه عن "آنا كارنينا" لتولستوي، ورغم أن المحور الرئيسي للفيلم كان قصة الحب الشهيرة، إلا أن وضعها كأم كان من أكثر العوامل المؤثرة في قرارتها وحياتها، واستطاعت أن تعبر عن ذلك التمزق الذي تعانيه بين دورها كأم وأحلامها كامرأة بشكل أسطوري، كفل للفيلم وللسيدة الرائعة البقاء أبداً كأيقونة فنية خالدة.
 
أما دورها العظيم في فيلم "امبرطورية ميم" 1972 إخراج حسين كمال، فكان النموذج الأمثل لفكرة الأم العصرية المثقفة العاملة، التي تستطيع أن تقوم بمفردها برعاية ستة أبناء بكل تفاصيلهم المختلفة وأهوائهم المتباينة، ورغم حرصها على ألا تنسى نفسها كامرأة، إلا أن أمومتها تنتصر في النهاية، وتكتفي بالأبناء بديلاً عن كل شيء.
 
وتعود السيدة الجميلة مرة أخرى لتقدم دور الأم بشكل مختلف تماماً في فيلم "يوم مر .. يوم حلو" 1988 إخراج خيري بشارة، فتحن للدور الكلاسيكي ولكن بشكل أكثر واقعية وأكبر هماً، فهي الأم الفقيرة لمجموعة كبيرة أيضاً من الأبناء، تسعى طوال الوقت على رزقهم وحل مشكلاتهم اللانهائية قدرما تيسر لها بإمكانياتها الضعيفة وإصرارها الكبير.
 
شادية
لم تتأخر أيضاً الفنانة الجميلة شادية في تلبية نداء الأمومة على شاشة السينما، فتحدت نمط "الدلوعة" الذي اشتهرت به في ذلك الوقت، وتظهر كأم عجوز لشاب كبير هو النجم شكري سرحان في فيلم "المرأة المجهولة" 1959 إخراج محمود ذو الفقار، وتتألق شادية في تجسيد معاناة السيدة المظلومة التي حرمت من ابنها، ولا تتورع عن فعل أي شيء لحمايته حتى القتل نفسه، رغم أنه لم يتربَ بين ذراعيها.
 
ومرة أخرى تظهر الجميلة شادية كأم لمجموعة كبيرة من الشباب في فيلم "لا تسألني من أنا" 1984 إخراج أشرف فهمي، ورغم الفقر والظروف الصعبة، تصر على تربية أبنائها كأفضل ما يكون، والبقاء إلى جوار الابنة التي باعتها حتى لا تكبر بعيداً عن عينيها.
 
وإذا دققنا النظر في هذه المجموعة سواء لفاتن حمامة أو شادية، نكتشف أن الأم هي البطل الرئيسي وأحيانا الوحيد، وأن الأب إما غائب أو يلعب دوراً هامشياً، وهو ما يرسخ لفكرة تقدير السينما لدور الأمهات الحقيقي، وأن الحياة يمكنها أن تستمر في غياب الأب، لكنها تكاد تستحيل في غياب الأم، وتأكيداً على مقولة أن يتيم الأم وحده هو اليتيم.
 
تحية كاريوكا
حدث جلل أن تتحول الراقصة ونجمة الإغراء إلى أم من الطراز الأول فجأة، وليس سهلاً أن تتصدى ممثلة لهذا التحول إلا إذا كانت بقدرات لا محدودة مثل تحية كاريوكا، التي قدمت أحد أجمل النماذج للأم المصرية في السينما في فيلم "أم العروسة" 1963 إخراج عاطف سالم، فأظهرت الجانب الأكثر نضوجاً من شخصيتها، واستطاعت أن تكون أماً رائعة لمجموعة ضخمة من الأبناء في مراحل عمرية مختلفة، من دون أن تتخلى عن قناعاتها الاجتماعية ولا أنوثتها، فكان من الطبيعي أن تحصد الجوائز عن هذا الفيلم وسط كثير من العمالقة، فهي لا تقل عنهن عظمة وروعة.
 
الجيل الوسيط
بعيداً عن هذا الجيل الرائع، والجيل الأقدم الراسخ، هناك جيل ظُلم في تقييمه رغم أهميته، إنه الجيل الوسيط بين هؤلاء وأولئك، فهن من مثلن المرحلة الانتقالية بين الجيلين فحملن سمات هذا وذاك، من هذا الجيل أيضاً لا يمكننا أن ننسى مديحة يسري وعقيلة راتب.
 
مديحة يسري
كانت أصغر سناً من الأمهات الأوائل، لكنها أكبر من الأمهات الشابات، بدت مديحة يسري وهي تلعب دور أم عبد الحليم حافظ في فيلم "الخطايا" 1963 إخراج حسن الإمام، مكلة بكل قيود الأم المصرية الكلاسيكية، تعاني في أعماقها ولا تملك حلولاً حقيقية لمساندة ابنها، لكنها لا تتوقف عن حبه ومحاولة دعمه نفسياً على الأقل، كما أنها سيدة عصرية أنيقة لا تتخلف عن تغيرات مجتمعها أو اللحاق به.
 
عقيلة راتب
لها في قلبي منزلة خاصة، وفي قلوب الكثيرين كما أعتقد، فهي ممثلة رائعة، تشعر معها دوماً أنها أحد أفراد أسرتك، توافق عجيب يحدث بينك وبينها منذ أن تطل بوجهها على الشاشة، قدمت عقيلة راتب دور الأم كثيراُ، فهي أم عبد الحليم حافظ في "أيام وليالي" 1955 إخراج بركات، حيث ضحت باستقرارها العائلي لإنقاذ ابنها، إلا أن الدور الأبقى لها بالتأكيد هو دورها المميز والرائع في فيلم "عائلة زيزي" 1963 إخراج فطين عبد الوهاب، حيث قدمت الدور شديد الكوميدية بكل جدية، ليبقى هذا الفيلم علامة فارقة في تاريخ الكوميديا المصرية، ومرة أخرى قدمت عقيلة الأم بشكل كوميدي في فيلم "ليلة الزفاف" 1966 إخراج بركات، فتقدم بخفة دم ملحوظة دور الأم التي ترى مصلحة ابنتها في زواجها من شخص آخر غير الذي تريده، وتسعى لتنفيذ ذلك بكل الطرق.
 
لم يتوقف دور الأم عند هؤلاء النجمات الكبيرات، بل قدمته أخريات بأنماط مختلفة، ومازالت السينما المصرية تقدم الأم بكل تطوراتها وتغيراتها، فسلام على أمهاتنا في يومهن، وتحية لكل من أمتعتنا يوماً بأدائها لهذا الدور العظيم.