خاص "هي": بين الحداثة والتقاليد.. كيف تتفادين "صراع الهوية"؟

خاص "هي": بين الحداثة والتقاليد.. كيف تتفادين "صراع الهوية"؟

مجلة هي
3 مايو 2023

بقلم الدكتورة ديانا شعيب حوري من مركز "ثرايف" للصحة النفسية في دبي Thrive Wellbeing Centre 

الدكتور ديانا حوري

 

لا شك أن الإرث الثقافي مكون أساسي للهوية. منذ السنوات الأولى من عمر الإنسان يبدأ حس الإنتماء بالنمو والتطور لدى الطفل إلى أن يصبح عند الراشد عاملاً أساسياً للتعريف عن الذات .

الفتاة تحديداً، غالباً ما تنشأ على قيم وعادات وتقاليد نابعة من البيئة الثقافية للبلد الأم. الإنتماء إلى بلد وثقافته يضع الفرد ضمن مجموعة، يتشارك معها سمات و مميزات معينة مثل اللهجة  والمخزون اللغوي وأحياناً اللباس المتعارف عليه، وأيضأ إختلافات مع الثقافات الأخرى. مع الثقافة نرث ،جيلا بعد جيل، مجموعة من التعاليم الثمينة التي تجٍسّد خبرة اللأجيال السابقة. فمن خلال ما نسمع أو ما نقرأ يصبح لدينا دليل يحتوي ليس فقط على قيم و تعاليم، و لكن أيضاً على حكاوي وحرف وفنون، مثل الموسيقى وفن صنع المأكولات وأسراره الخاص ببلد أو منطقة معينة. كل هذه المكونات تساعد على تكوين الهوية و تدعم الحس بالإنتماء.

وبالتالي، فإن مكونات الإرث الثقافي تشكل إطارا مهما للتوازن النفسي من خلال تحديد المسموح و الممنوع، ما من شأنه أن يعطي أمانًا معينًا وركيزة للنمو والتطور وكذلك الإحساس بالإنتماء لمجموعة داعمة. الثقافة تحدد أيضاً التوقعات من المرأة والرجل التي تتجسد أحيانا بتوزيع الأدوارعامة و لدى الثنائي تحديداً، مما ينعكس على منظومة العائلة وتكوينها، فنمو هوية المرأة والأم يستعين بتجربة نساء الأجيال السابقة مثل الأم أو الجدة الخ.

ومن ركائز الثقافة أيضًاً، شخصيات بارزة من الماضي أو الحاضر تركت بصمتها ويمكن للمرأة التماهي بها على أصعدة مختلفة مثل العمل أوالفنون. بحيث يكون هناك بمثابة دليل ومرجعية، تكون أرضية صلبة ننطلق منها، ونتفادى الهشاشة التي يمكن أن نقع بها.

إن معظم الثقافات أصبحت منفتحة على ما يسمى الحداثة. فالبيئة الثقافية المكونة بشكل كبير من الموروثات والتقاليد هي بطبييعتها قابلة، بنسبة معينة، للتغيير والتطور. كذلك الهوية، فهي قابلة للنمو والتحول بإدماج مكونات وقيم مستوحاة من الحداثة. هذه الإمكانية تؤمن غنىً معينًا للهوية، شرط أن لا نقع بمعادلة الإنفتاح الكلي أو الإنغلاق الكلي على الآخر. من المهم أن يكون لدينا القدرة على التقييم وانتقاء ما نريد من الحداثة وترك ما لا نريد جانباً. نذكّر أنه كل ما قلّ التعارض بين القيم التي نرثها والتي ننتقيها، كلما تعرضنا أقل لصراع الهوية والصراع النفسي.

وجود الحداثة أمر واقع في عالم اليوم وواقع المرأة تطور في مجتمعات كثيرة. نسبة التعليم إرتفعت بشكل ملحوظ، كذلك إمكانية العمل. الخيارات المطروحة هي إما نكران هذا الواقع مما يؤجل الصعوبات فقط، أو مرافقته بشكل تدريجي. تطورالعادات يتطلب وقتًا والمرور بعدة مراحل مثل النكران والتجنّب أو الإنغلاق، إلى التأقلم والوصول إلى توازن معين على المستوى الجماعي والفردي. من المهم مواكبة التطور مع الحفاظ  على القدرة على التفكير الحر. فلنسنا مضطرين قبول كل ما تجسده الحداثة بل إنتقاء أساسيات معينة و صهرها مع عادات تمثل ثقافتنا. هذه العملية تتطلب مرونة وتقبل التخلي عن بعض العادات البالية التي بوجود الحداثة يمكن أن تعرّض المرأة للتناقضات والمعادلات التعجيزية التي تغذّي الصراع الداخلي. مثلاُ لا يمكننا أن نبقي نفس التوقعات من المرأة العاملة، في ما يخص مسؤوليات المنزل والعائلة، كما لو كانت لا تعمل. من الضروري أيضاً مواكبة التغيير من خلال القوانين التي تخص المرأة، مثل القانون الذي يسخّر حق الحصول على إجازة بعد الولادة. هذا القانون يمثّل إعترافًا بوضع المرأة الجديد و بالجوانب المختلفة لهويتها ويخفف من الشعور بتضارب الأدوار والشعور بالذنب أحياناً. عندها فقط تتحول ألإشكالية الثقافية إلى إشكالية جماعية تلقى إنتباه النظام والمحيط الذين يؤمّنون الدعم، بدل أن تكون إشكالية فردية تعيشها المرأة في العزلة.

بالرغم من أن الانفتاح على الحداثة له منافع، إلا انّه يشكّل أحياناً كثيرة تحدّيات، خاصةً عند المرأة التي تتواجد في صلب إشكاليات الهوية. فهي في الواجهة، ومكانتها في المجتمع غالباً ما تكون مؤشّرًا وتجسيدًا لثقافة البلد. من اللباس إلى العلم والعمل وحرية التفكير والتعبير وتوزيع الأدوار بين الرجل والمرأة، كلها تشكل أوجهًا للثقافة السائدة. إضافة إلى دورها في التربية ونقل القيم إلى أولادها. هذه المسؤوليات، تجعل وقع كل تغيير بوضع المرأة أكثر حساسية وتعقيداً. نحن نشهد من خلال الممارسة العيادية، الصعوبات والصراعات النفسية التي تمر بها بعض الفتيات والنساء الناتجة عن التناقضات في المجتمع أو البيئة المحيطة. فالشعور بالذنب والخوف من أن تنبذ من محيطها يثقل بعض النساء ويحدّ من تطورهنّ. أيضاً الخوف من عدم إيجاد شريك يتقبل ويدعم تطور المرأة، فتضطر إلى التخلّي عن جانب من هويتها مقابل الاخر. كثيرًا ما تتجسّد الصراعات بالأعراض النفسية مثل القلق والإكتئاب أيضاً من خلال الأعراض النفس-جسدية مثل الصداع النصفي وأوجاع المعدة.                                     

من المهم أن لا تنعزل المرأة وأن تتكلم عن صراعاتها دون الخوف من الأحكام المسبقة. من الممكن أيضاً التماهي بنساء استطعن الوصول إلى توازن معين يتناغم مع الذات من خلال إنتقاء ما يناسبها من الحداثة وصهرها مع عادات وتقاليد تناسبها وتغني هويتها. إن إرضاء الجميع مستحيل والصراع لا مفر منه أحياناً لكي نتطور و ننمو. لكن عندما يكون الصراع  قويًا ويترافق بمعاناة، من الأفضل طلب المساعدة، كإستشارة أخصّائي أو معالج نفسي.