في مديح الظل العالي… أبي

أريج إبراهيم عراق
 
صورة
هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ.. تتدلى يداي
 
كان أبي هو الوطن الأول، والمعلم الأول، والظل العالي الذي استظليت به سنوات عمري معه، ومازالت ذكراه العطرة تعبق المكان، وتخفف قليلاً من ألم الحنين الذي لا يمل من غزو الروح.
 
عندما كنت طفلة، كنت أرى أبي قامة مهيبة، أنظر له من أسفل فأرى رأسه يناطح السماء، صوته الجهوري القوي هو معيار الأمان في هذا المنزل، أما راحة يده الكبيرة، فكانت أفضل مكان تستقر فيه يدي الصغيرة وأنا أسير إلى جواره غير عابئة بكل ما يحدث في هذا العالم، فأنا في حضرة أبي، ما الذي يمكن أن أخشاه؟ 
 
لازال صوته يتردد في أذني وهو يقص علينا حكاياته الرائعة التي لا تنتهي، أتعجب كيف كان يحوّل قصص التاريخ إلى حكايات مشوّقة، كيف تحولت مسرحيات شكسبير إلى "حواديت"، كيف كان يكلمنا عن كل شيء وأي شيء، كنت أعتقد دوماً – وما زلت – أن أبي يعرف كل شيء عن هذا العالم، لكنني لم أنتبه وأنا طفلة، أن هذه الشخصية الجبارة، تخفي وراءها قلب طفل، وإحساس شاعر، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من قربه، اكتشفت أنني لم أعرفه، لم أدرك كمّ النقاء في نفسه السويّة، كنت أعتقد فقط أنه مجرد مثقف عبقري واعٍ، يجيد تحليل الأحداث والظروف بنظرته الثاقبة ورؤيته المختلفة متفتحة الأفق، التي علمتنا دوماً أن ننظر من زوايا مختلفة لكل الأمور، كان إنساناً، وما أقل من يستحقون هذا اللقب في زماننا، يلقبه زملاؤه في العمل بـ "الأستاذ" ويعترفون جميعاً بفضله في تعليمهم وتوجيههم، ليس فقط على مستوى الكفاءة المهنية، ولكن أيضاً على المستوى الإنساني والمعرفي.
 
عندما فكرت يوماً في الالتحاق بمعهد السينما، توقعت أنني سأخوض معركة شرسة معه، وأنه سيرفض هذا رفضاً قاطعاً، وبدأت أستعد لهذه المعركة بكل قوة، لكنه أفشل كل مخططاتي، ووافق بحماس، وبدأ يدعمني بكل قوة لأحقق ما أحلم به، وتصدى لكل من اعترض على هذا الأمر، لأكتشف بعد فترات طويلة، أنه كان يتباهى بي أمام كل أصدقائه، ويفتخر أنه نجح في تربية أبنائه كما كان يتمنى، من دون أن يقول هذا لأي منا، لكنه في نفس الوقت لم يتوقف يوماً عن دعمنا – شقيقي وأنا - حتى آخر لحظات حياته.
 
غاب الوجه، وتلاشت الملامح، لكن الحضور لم يخفت يوماً، وأنا في حضرة هذا الغياب، اكتشف كم من المؤلم أن شجرتي العالية التي اعتدت أن استظل بها، لم تعد موجودة، فاختفى الظل وانكشف رعب الشمس الحارقة، ولم أعد أجد مكاناً ليدي الصغيرة لتستقر فيه وتشعر بالأمان.