"رجل مطلوب جداً" آخر أفلام فيليب سيمور هوفمان

هي: عماد عبد الرازق 
 
جون لوكاريه من أشهر كتاب روايات الجاسوسية في الغرب وأعماله عادة ما تتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعا. وفيلم 'رجل مطلوب جداً A Most Wanted Man' مأخوذ عن احدى هذه الروايات لكن السيناريو من أعداد شخص اخر. 
 
للمشاهد ان يتوقع اذا قصة حافلة بالإثارة تختلط فيها خيوط دراما الجاسوسية بالحبكة البوليسية، وايضاً مليئة بالتفاصيل الحقيقية التي تكشف عن علم وفير بعالم الجاسوسية وصراع اجهزة المخابرات بين الكبرى والصغرى على السواء. ان لم يكن كل هذا كافيا لمشاهدة الفيلم نضيف انه اخر أفلام ' فيليب سيمور هوفمان'، واحد من المع ممثلي هوليوود وان لم يكن يتمتع بشهرة نجوم الشباك من الصف الاول، لان معظم أدواره تتميز بجودة فنية عالية بعيدة عن الإثارة الشعبية او أفلام الاكشن الجماهيرية. بنفس القدر من الأهمية، قد لا يتذكر كثيرون ان رحيل هوفمان في الثاني من فبراير الماضي عن ستة وأربعين عاما فقط، كان مأسويا على طريقة  رحيل " روبن وليامز" وان لم يكن انتحارا، بل نتيجة تناول جرعات زائدة من 'المخدرات' التي كان يعاني من الإدمان عليها لفترات طويلة. والفيلم يحمل في بدايته إهداء الى ذكراه. وقد حصل هوفمان على أوسكار افضل ممثل عن دوره في فيلم ' كابوتي' عام ٢٠٠٥، وحصل عنه أيضاً على جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتليفزيون( بافتا BAFTA) وجائز الغولدن غلوب. ( ومن أفلامه أيضاً: ' عطر امرأة Scent of A Woman'،  '  السيد ريبلي الموهوب The Talented Mr. Ripley'، وغيرها...)
 
مطلوب حيا أو ميتا  
يتناول الفيلم قصة 'عيسى كاربوف' شاب من أصول شيشانية روسية، يتمكن من الهروب من السجن في تركيا بعد تعرضه للتعذيب هناك ومن قبلها في روسيا لاستباه في تورطه في نشاطات ارهابية. يتمكن ' عيسى' من الوصول الى ألمانيا عبر شبكة تهريب ليلتحق ببعض الأصدقاء والأقارب هناك. لكن الهدف الرئيسي لاختياره ألمانيا هو ان يضع يده على ثروة تقدر بعدة ملايين يوريو أودعها ابوه الذي كان ضابطا رفيعا وفاسدا في الجيش الروسي، وبسبب هذه الخلفية لا يحمل الابن ودا لأبيه بل انه يعاني من صراع داخلي بسبب هذه الثروة التي يعتبرها هو أموالا حراماً او ' قذرة' كما يقول، كما انه يكره أباه ويدينه لتورطه في جرائم الجيش الروسي ضد المقاتلين الشيشان من شعبه (أمه من أصل شيشاني) الذين يخوضون حربا طويلة للاستقلال عن روسيا. وليس هذا بالسبب الوحيد لكراهيته إياه،  فهو يسر الى محاميته ان أباه في الحقيقة اغتصب امه ولم تكن تجاوزت الخامسة عشرة من عمرها. وهذا الاعتراف يضفي على العلاقة بعدا إنسانيا اخر يزيد من تعاطف 'انابيلا' معه. 
 
يجد ' عيسى' نفسه من اللحظة الاولى لوصوله ألمانيا مطاردا من قبل عدة اجهزة مخابرات في مقدمتها الألمانية والأمريكية بطبيعة الحال. فهو معروف بصلاته بمجموعات جهادية ومن ثم فان وصوله ألمانيا سراً يثير الكثير من الشكوك والأسئلة التي تبحث عن إجابات. هو قيد المراقبة بلا جدال في عدة مدن أوروبية ما يستدعي تعاونا بين اجهزة مخابرات تلك الدول، وهو تعاون لا يكون دائماً سهلا او بلا  قيود وشروط وهو ما يخلق توترا وصراعا جانبياً بينها كما بين المخابرات الألمانية والبولندية مثلا التي تريد ضمان التزام الاولى باحترام القوانين في الثانية اثناء ممارسة نشاطات الجاسوسية الخاصة بمطاردة المشبوهين او الإرهابيين. 
 
الشخصية الرئيسة الى جانب 'عيسى كاربوف' ( يجسده الممثل الروسي غريغوري دوبريغين) هو ضابط المخابرات الألماني 'غونتر باخمان' (هوفمان) المسؤول عن متابعة قضية 'عيسى'، خصوصاً وان له خبرة بقضايا الشرق الأوسط والصراعات الدموية هناك حيث عمل فترة في محطة الاستخبارات الألمانية في العاصمة اللبنانية بيروت. لان المخابرات لا تملك ادلة محددة تستوجب القبض على ' عيسى' لكنه مع ذلك يثير قلقا حول أسباب قدومه الى ألمانيا دونا عن غيرها من البلدان الأوروبية فان ' غونتر' يكتفي في البداية بوضعه تحت المراقبة اللصيقة. عيسى نفسه يحل ضيفا على أصدقاء مسلمين في هامبورغ الذين يعتزمون مساعدته على جعل إقامته في ألمانيا قانونية من خلال التقدم بطلب لجوء سياسي. وبالفعل يتصل صديقه المضيف ' رشيد' بالمحامية ' انابيل ريختر' ( راتشيل ماك آدامز، النجمة الكندية التي لمعت في أفلام ' بنات شريرات Mean Girls, و ' مقتحموا الأعراس Wedding Crashers' ، و ' شيرلوك هولمز') لتتولى قضيته. وفي اول لقاء بينهما بمنزل رشيد تسأله عن مسوغات اللجوء لان الكثيرين من طالبين يزعمون تعرضهم للتعذيب، فما يكون من عيسى الا ان يكشف لها عن ظهره  لترى بعينيها اثار تعذيب مروعة عليه.  
 
حرب الاستخبارات السرية  
في هذه الأثناء يتلقى 'غونتر' اتصالات من أقرانه مسؤولي المخابرات الأجنبية في ألمانيا وفي مقدمتها الاميركية ' مارتا سوليفان'، ( روبن رايت، الممثلة الاميركية التي لمعت مؤخراً من خلال المسلسل الناجح جدا ' بيت ورق اللعب House of Cards', امام كيفن سبيسي).  التعاون بين الاثنين ليس على ما يرام لان ' غونتر' لا يثق في الأميركيين وخاصة بسبب الاختلاف البين في طريقة عمل الاستخبارات في البلدين. 
 
كما ان خبرته السابقة في التعاون الاستخباراتي  مع الولايات المتحدة غير مشجعة و لسوف تتحقق شكوكه وان في اللحظات الأخيرة من الفيلم. هذا الاختلاف المنهجي في العمل وليس في الأهداف تكمن فيه اهم مقولات الفيلم الدرامية ورسالته السياسية التي تكتسب وزنا خاصا بمعطيات الواقع الحالي الذي يشهده عالمنا من صراعات ونزاعات طائفية وعرقية ودينية شرق وغربا. 
 
حين يسأل 'غونتر' الاميركية ' مارتا' عن الهدف من كل تلك النشاطات الجاسوسية التي يقومون بها تجيبه ' كى نجعل العالم مكاناً اكثر امنا'. فيجادلها بان مثل هذا الهدف لا يمكن ان يتحقق عبر الوسائل المتبعة حاليا في التعامل مع المشبوهين او الإرهابيين وفي مقدمتها التعذيب. ويشرح لها كيف ان ' عيسى' تعرض لتعذيب بشع في سجون دولتين ولم يغير هذا من قناعاته بل الأغلب الأعم ان كل من مروا بظروفه يخرجون من السجون- اذا كتبت لهم حياة- اكثر حنقا ومرارة وحقدا على المجتمع وجلاديهم. وفي اجتماع استخباراتي آخر يشرح ' غونتر' أسلوب عمل الاستخبارات الألمانية قائلا' نحن نراقب المشبوهين او الخطرين من خصومنا من بعد، ونتقرب اليهم وقد نتعرف على أصدقائهم وأسرهم ان أمكن بل وقد نصادقهم في النهاية لنفهم ما الذي يحركهم وقد تنثنيهم عن نواياهم. وخلال كل هذا تظل المراقبة قائمة لان الهدف في النهاية هو ' جعل العالم مكاناً اكثر امنا'. اما العنف، يستطرد 'غونتر' فلا يولد الا مزيدا من العنف، ويخلق فراغا لانه لا يتعامل مع جذور المشكلة وهذا الفراغ سيقفز اليه دائماً من يملؤه لتستمر الدائرة الجهنمية من العنف والعنف المضاد. 
 
تقابل هذه 'الفلسفة' بالشكوك طبعا من اقران 'غونتر' بل وببعض ابتسامات الاستخفاف فهؤلاء عملاء وجواسيس وليسوا مصلحين اجتماعيين او وعاظ. 
 
انعدام الثقة هذا يزيد من حدة التوتر بين الفريقين ويزيد من سخونة الخط الدرامي الرئيسي في الفيلم  وبطله 'عيسى كاربوف، وهو هنا بمثابة 'الجائزة الكبرى' التي يتنافس الفريقان على اقتناصها ونصبح امام عملية مطاردة مستديرة: ' غونتر' وفريقه يراقبون 'عيسى' والأسرة التي تستضيفه، وكل من في دائرته وبينهم المحامية 'أنابيلا' التي قررت ان تنقله الى شقة لأخيها بعد ان علمت بنية القبض عليه. ويمارس ' غونتر' عليها ضغوطا هائلا لتخبره عما ينوي 'عيسى' عمله، مؤكدا لها ان هدفه هو حمايته لانه ملاحق من آخرين. وبعد ان تنصاع للضغوط تخبرهم عن مكمنه وانه اختار ألمانيا بالذات لانه يريد ان يستعيد ثروة تركها ابوه بأحد البنوك ليس ليستثمرها وإنما ليتبرع بها الى جمعيات خيرية إسلامية، ثم يبدأ  حياة جديدة بعد ان يصير وضعه قانونيا. كل هذا لا يزيل الشكوك لدى ' غونتر' في الوقت الذي يكون هو ورجاله مراقبون من قبل فريق ' مارتا' الأميركي، الذي يراقب تحركات أصدقاء عيسى ورفاقه مراقبة لصيقة. تمتد دائرة المراقبة الى ' تومي برو'، ( وليام دافو)، مدير البنك المودعة فيه وديعة ' كاربوف' الاب حيث ينجح ' غونتر' في تجنيده لصالح مهمته للوصول الى النية الحقيقية لعيسى.
 
بدوره يعلن الأخير انه قرر ان يقدم الوديعة الى داعية عربي باسم 'د.  عبدالله' ( همايون إرشادي)، فهو من المتابعين لدروسه وعظاته من. ان كان في بلده الشيشان. لكن الشكوك تساور الداعية نظرا لضخامة المبلغ وايضاً حي يعلم بانخراط المخابرات الألمانية في العملية فيطلب مقابلة المتبرع السخي هذا قبل ان يوافق على قبول هباته وهو ما يتم له بوساطة مدير البنك. لكن ' د. عبدالله' نفسه ( الذي يقيم في قصر منيف محاطا بالحراس الأشداء) مراقب منذ فترة بواسطة ' غونتر' الذي نجح في تجنيد ابنه - ولا احد سواه- بعد ان اقنع الابن ان ذلك لمصلحة ابيه لان الجمعيات الخيرية التي يجمع لها الاب التبرعات بعضها له صلات مشبوهة بجماعات ارهابية.
 
كما نرى الجميع مراقب هنا ويتم التجسس عليهم: عيسى ومضيفيه ومحاميته ومدير البنك الذي يضم ثروته ود. عبد الله وأسرته، ولا تتورع اي من اجهزة الاستخبارات تلك عن ابتزاز أي من هؤلاء او تهديدهم ان أمكن بنقاط ضعف معينة يعرفونها عنهم حتى يجبرون على التعاون مع الاستخبارات. 
 
يهيمن حضور ' هوفمان' على احداث الفيلم من البداية للنهاية فهو موجود في معظم مشاهده تقريبا وحتى المشهد الأخير حين يكتشف خطيرة الاستخبارات الامريكية لها باختطاف كل من هم في دائرة الاشتباه امام عينيه وفي وضح النهار في بلده بعد ان كان قد أوشك على بلوغ هدفه. هذه هى الطامة الكبرى التي ينتهي اليها الفيلم كما أوضح ' غونتر' في البداية، ليس هذا هو السبيل الى جعل عالمنا ' مكاناً اكثر امنا'. بل هو يزداد خطورة يوما بعد يوم.